حينما أتذكَّر هذه الجملة التي سمعتها من كثيرين من كبار السن في محيطي منذ طفولتي، وفي مقدمتهم والدي الثمانيني (المجالس مدارس) فإني كثيراً ما أراها تتراءى أمامي كعنوان كبير لدرس تربوي أخلاقي؛ في كل مرة تجمعني بالكثيرين مجالسنا العامة أو الخاصة أو اجتماعاتنا في مناسبات اجتماعية، خاصة حينما ألمس أننا لا نعطي مجالسنا حقها من الأحاديث المفيدة المتعقلة، وحقها من الوقار والاتزان والرزانة (وقبل أن يفهمني الآخرون خطأ) أقول: لا يعني كلامي هذا، أن تتحوّل مجالسنا إلى مجالس رسمية (فتخلو) من الابتسامات والطرفة والمواقف «والسواليف المفيدة» التي تحمل المعاني والقيم (ولا أقصد) أن تخلو من روح الدعابة في حدود الأدب، دون أن يكون فيها ما يحمل الإساءات لأحد، أو يكون فيها ما يخدش الحياء «والحياء شعبة من الإيمان» أو ما يخالف الدين من الهمز واللمز ونقل الإشاعات، أو فيها ما يخرق حدود العيب، ويُضيع جمال المجلس، ووقار الحاضرين، لا أقصد أن تتحول إلى (مجالس رسمية) إلى الحد الذي قد يصاب أحد الجالسين فيها بالملل، لكن الذي يحدث وأقولها بكل صراحة لا تعوزها الشجاعة، أن بعض (الاجتماعات في مجالسنا الخاصة على وجه التحديد) لم تعد مغرية أو مشجعة لئن تحضرها، بل وتشعر بالندم، حينما تجد أنك قضيت وقتاً ثميناً فيها كان يمكن قضاؤه فيما يفيد، ولولا بعض الواجبات اللازمة لهجرتها، خاصة تلك المجالس أو الاجتماعات التي يصل فيها حد الأحاديث (الابتذال) وقد قالت العرب (أنت تملك الكلمة فإذا خرجت منك ملكتك! وكأنه لا يوجد ما يحسن طرقه من «السواليف» إلا أحاديث خادشة للحياء»!!» رغم أن الحكايات كثيرة، والقصص والمواقف كذلك، وفيها معان جميلة، سواء من حكايات التراث البعيد أو القريب بما فيها مواقف الدعابة، والمواقف المضحكة والمحرجة، والتي تحمل العظات والعبر، بالشكل الذي يجعلها ترسم الضحكات على الوجوه، سيما ونحن في زمن (نتعطّش) فيه للابتسامة البريئة في زمن يضج بالدماء والحروب والعنف والقتل، بل حتى الحديث في شؤون العمل الوظيفي حينما يكون المجتمعون من دائرة وظيفية واحدة على الرغم من أن هناك من يرى الحديث عن العمل وهمومه في المجالس الخاصة (نوعاً من اللغو)، وهنا لا أخفي دهشتي حينما أسمع طلباً أو رغبةً بهذا! وحقيقة كم تمنيت في بعض المناسبات الخاصة عقب نهايتها، أن لو بقي فلان من الناس كنت أضعه داخل إطار جميل من الوقار والجمال والاتزان، فيالموضع الذي وضعته فيه، ورسمته عنه، ولا أني أسمع سقطات لسانه، وتعبيراته تسقطه من داخل ذلك الإطار الجميل المرسوم في مخيلتي عنه بأحاديث (السّفه) التي تخرج من فيه؛ وما أجمل الصمت، وهو درس نبوي علمنا إياه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم- بقوله «من كَانَ يؤمن باللَّه والْيوم الآخر فلَيقل خيراً أَو ليصمت» فسقطات اللسان خطيرة، واللسان هو حديث الفكر والعقل للمرء، وكما قيل «تكلموا تعرفوا فالمرء مخبوء تحت لسانه لا طيلسناه» وقيل «كم في المقابر من قتيل لسانه..كانت تهاب لقاءه الشجعان» لعل تطلعاتي في مجالسنا الخاصة، وكذلك العامة، أن تُدار فيها الأحاديث النافعة، وأن يتم فيها تبادل الأفكار والنقاشات والحوارات في الشأن العام والخاص «والسواليف» الطريفة والماتعة، والمواقف العابرة ذات المعاني السامقة، وفق قواعد آداب الحوار والاختلاف، بما يحفظ لمجالسنا رونقها وجمالها، وألاّ تخرج إلى مناطق تجعل أكثرنا يفضّل «عزلة المعري» على الاختلاط بالناس، وهو يردد قول الخطابي
«أنست بوحدتي ولزمت داري
فطاب الأنس لي ونما السرورُ
وأدبني الزمان فلا أبالي
هُجرت فلا أُزار ولا أزورُ»