عندما يزهو ويعتدّ المتنبي بنفسه ويقول:
«وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمّراً
وغنى به من لا يغني مغردا»
فهذه مبالغة مفرطة في الفخر والاعتزاز بالنفس لكنها مستساغة ومقبولة جدا، لأن الغرض مقتصر على الاستعراض الأدبي والفرض للموهبة الشعرية التي يمتلكها المتنبي والتي وصلت أقصى درجات التفرّد والجمال، لكني هنا لست معنياً بالمبالغة في المجال الأدبي، بل أتحدث عنها عندما تكون في حياتنا كتصوراتنا وآرائنا ومديحنا وانتقاداتنا وشكوانا والتي تكون أحيانا عن قصد وفي بعض الأحيان بشكل عفوي، فهذا مما لا يفترض أن يحصل حتى تكون الأمور في موازينها ومواضعها الصحيحة.
مؤكد أن للمبالغة أسباباً متعددة ولا أدّعي الإمكانية لحصرها جميعاً فبعضها نتاج للتركيبة النفسية والتكوين العقلي للفرد، لكن في نظري أن أهم هذه الأسباب هو النقص المعرفي وانخفاض المستوى التعليمي، لأن الجهل بالشيء عادة يخلُّ بتصوره فلا يُِعطى قيمته ومكانته بشكل دقيق، ولو تم التحري والإحاطة بالشيء بكل جوانبه لاتضحت الرؤية ومن ثم يأتي الوصف والحكم بشكل سليم. فنحن على سبيل المثال نمتدح أشخاصا أو ننتقد غيرهم بشكل مبالغ فيه معتمدين فقط على المواقف أو القصص التي تُروى عنهم، وتكون في بعض الأحيان ليست مؤكدة أو غير دقيقة، فأحكامنا التي تُطلق من منصّات عقولنا إن لم تتكئ على نظرة موضوعية وشاملة فسوف يكون الاختلال واضحا فيها.
سبب آخر يقودنا للمبالغة وهو التحيّز، سواء لرأي أو لفكرة أو لشخص أو غير ذلك، فالتحيّز يجعلنا نجتذب غير ملاحظين جميع الأشياء التي تدعم ما نؤيده صحيحاً كان أم خاطئاً فيظهر الموضوع بشكل مبالغ فيه فيصعب تقبله. من أسبابها أيضاً النظرة المغرضة أو الانتفاعية، فإذا كان الهدف من المديح أو الانتقاد مصلحة أو غرض، فمن غير المستغرب أن تُوظف جميع الأفكار والكلمات الإطرائية أو الانتقادية لخدمة هذا الغرض والتي غالبا ما تزول بزواله.
تظهر المبالغة أيضاً نتيجة لزيادة الحرص خاصة في مجال تربية الأبناء فالتعليمات والتحذيرات المبالغ فيها من الأبوين للطفل قد تؤثر سلباً في تلقّيه وفهمه لطبيعة الأشياء كما هي. من غير السهل أبدا على الإِنسان التزام الموضوعية وترك المبالغة والتهويل، لكن مع الممانعة والاتزان الفكري وإعطاء الأشياء قيمتها الأصلية يمكن أن تتلاشى أو على الأقل تخف الحدة وبشكل كبير.