تشرفت اللغة العربية بنزول القرآن بها، وما كانت لتشرف لولا ذلك، وحفظت تبعًا لحفظ القرآن، وإلا فإن اللغات كما الأحياء، إذ يأتي عليها زمن وتموت كما ماتت غيرها من لغات العالم.
إن تطور الأمم مرتبط بتطور لغاتها، إذ إن جمود اللغة وعدم توالدها مدعاة إلى الركود، وعدم التفاعل نحو التحول الاجتماعي المطرد.
على أن عبد الرحمن بن خلدون رائد علم الاجتماع، ألمح إلى هذا في مقدمته، ولولا أنه يخشى الناس على نفسه لصرح وبسط هذه اللفتة.
إن الأمة العربية لا تزال حتى اليوم تصنف في زمرة العالم الثالث، فلم تتقدم منذ سقوط الدولة العثمانية، كانت قد تقدمت من قبل منذ العصر الإسلامي لوجود تلك المفردات الجديدة التي طرأت عليها، فالإسلام، والصلاة، والزكاة، والصوم، والكفر... وغير ذلك، كلها مفردات لم تكن موجودة، فكان لوجودها تطور وتقدم، فكان أن تعددت وانتشرت الفتوحات الإسلامية.
إن جمود اللغة يعيق التقدم، ولكن في عالمنا الإسلامي ترتبط اللغة بالقرآن الكريم، والمناداة بتطورها مخاطرة جسيمة، فحين تتبدل اللغة بتطورها يعسر على الأجيال اللاحقة فهم القرآن وكذا السنة، وهذا مزلق عقدي خطر، والحل مجهول على كل حال.
إن الاحتفاء باللغة العربية اليوم فيه حزن وفرح في آن واحد، فنحن نعتز بها لاعتزازنا بالقرآن وبالسنة النبوية، وذان المصدران لا غنى للإسلام والمسلمين عنهما، ولكننا نأسف على تقهقرنا المرتبط بتطور اللغة.
إن من يفتش عن لغات العالم يجدها حين تطورت، وتبدلت إلا قليلاً؛ تطور مستخدموها، وتبدل المجتمع، والواقع شاهد حاضر، ولو شاء لرفع هذا المجتمع عقيرته معترفًا باعتزاز.
إن التطور شامل لمناحي الحياة في الدول بلا تعيين، ومن شدة وعيهم بأهمية تطورهم نجدهم يتسابقون في استحداث مفردات لم تكن معهودة ومستعملة من قبل، ويعولون هذا على اندفاعهم المطرد نحو المستقبل، ولا يلتفتون إلى مفردة قد أهملوها، وإنما يحفلون بكل جديد.
إن هذا القول يجرنا إلى تقديس القديم عندنا، وكره القديم عند أصحاب اللغات المتطورة، حيث يربطون تقدمهم بنبذ القديم، ونحن نرى من زاوية على الضد منهم، ويغيب عنا أن اللغة هي المحك وعليها التعويل.
إنها مشكلة عويصة، فكيف نحتذي بهم إن علمنا أن تطور لغتنا، وجمودها أمران خطران؟!
نأتي هنا على عدد المفردات المستخدمة في اللغات، فنجد اللغة العربية أكثر اللغات عددًا، حيث وصلت إلى (912،30،12)، بينما الانجليزية وصلت إلى (000،600)، حسب تعداد منظمة اليونسكو، والفرق الشاسع واضح وبيّن هنا.
قد يظن ظان هنا، أن اللغة العربية متطورة أكثر من غيرها، بدليل الرقم السابق المليوني، بينما الشأن غير ذلك، إذ لا يقاس تطور اللغة بعدد مفرداتها، وإنما بغرض هذا التعدد، وإذا علمنا أن هذا العدد لم يكن للاستخدام اليومي للعربي، وإنما هو خاص بغرض الشعر، والشعر علم أمة لم يكن لها غيره قبل الإسلام، فكان الشاعر يولد المفردات بغية تلبية القافية المتكررة في كل بيت.
لقد كان الشاعر إذا تمكن من اللغة ارتجل، أي استحدث مفردة من عندياته، والناس تتلقف هذا الفعل بالترحيب، فهو شاعر فحل.
خاصم أحدهم الشاعر الفرزدق في إعراب كلمة، فنهره الفرزدق وقال في غرور: علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا. وهذا الفرزدق شاعر أموي، فكيف بالشاعر الجاهلي الذي لم يكن تحت وطأة قواعد النحو؟!