تهمة جاهزة معلبة تُلقى في وجوه الخصوم فتصيبهم بمقتل. هذا ما يفعله أصحاب الموجة العالية دائما وأبدا في كل مكان وزمان وبطول وعرض جغرافية العالم وتاريخه.
وطبعا طالما أنهم أصحاب الموجة العالية، فلا معنى أن يحدد للتهمة ملامح واضحة. ليسوا مضطرين! خاصة وأن الخصوم قد يتغيرون من زمن لآخر، وبذلك تظل التهمة صالحة للاستعمال مع مختلف الخصوم. على كل حال، هذا ما يفعله الأمريكان، وهم أصحاب أعلى موجة، مع تهمتهم المدللة «الإرهاب»؛ يتركونها بلا ملامح.. بلا رتوش؛ صالحة للاستعمال مع طيف واسع من الخصوم؛ دولا أو منظمات أو حركات تحرر أو مقاومة.
على كل حال، تهمة الإرهاب ليست سوى تهمة من التهم الكثيرة التي يرمي بها أصحاب الموجة العالية خصومهم. والملاحظ أنه لا يوجد جهد مجتمعي لتعريف المصطلحات أو إذا شئت «التهم» ، بل تُرك الأمر لأصحاب الموجة العالية يوظفون هذه التهم ضد خصومهم دون رادع من عقل ولا منطق. إحدى هذه التهم التي يُساء استخدامها هي « النفاق». طبعا لم يتبرع أحد من مفكري الأمة أن يتصدى لتعريف النفاق ووضع محددات له، على الرغم من أن مصطلح النفاق والمنافقين قد ورد في القرآن الكريم مرارا وتكرارا، حتى أفرد لها القرآن سورة للنفاق وأهله باسم «المنافقين»، قبل أن يصمهم باللعنة الكبرى التي تنتظرهم «إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار».
لكن مع هذا يظل السؤال قائما.. من هم المنافقون.. ما هو النفاق؟
وهنا دعوة لأهل الفكر والعقل، المندسين في تلافيف المجتمع، أن يدلوا بدلوهم بهذا الخصوص.
ولكن بانتظار أن ينبري أحد منهم لذلك، أود، رغم فداحة نقصي بهذا الاتجاه، أن أشارككم بما أراه في موضوع النفاق. ما هو النفاق؟
ابتداء أود أن أقول- والله أعلم- أن أصل وجذر النفاق من مفردة «نفق» وتعني مات.
تستعمل هذه المفردة لوصف موت الحيوان والإنسان واسم الفاعل منها «نافْق». لكن ما هو مصدرها بصراحة لا أعرف.. لكن قد يكون «نفوق».
كمقاربة، ما يمكن عمله بهذا الخصوص أن نضم «النفاق» إلى مثيلاتها؛ نفاق من النفوق.. استماتة من الموت، وتفان من الفناء.. واستقتال من القتال.
على كل حال، يتركنا هذا مع استنتاج.. أن النفاق يعني التفاني.. الاستقتال.. الاستماتة. لكن يبقى السؤال.. التفاني في ماذا.. الاستقتال على ماذا.. الاستماتة في ماذا؟
للإجابة عن هذا السؤال، دعونا نعود إلى بداية ظهور «النفاق» و»المنافقين». إبان سطوع نجم الاسلام في المدينة المنورة، حتى قبيل قدوم الرسول- صلى الله عليه وسلم-، ظهرت فئة «المنافقين».. لاحظوا أن المنافقين لم يظهروا بين المسلمين في مكة المكرمة، لأن الإسلام كان ضعيفا وكان المسلمون يلاقون ما يلاقون من عسف وتعذيب وعزل.
لكن مع انتقال الاسلام ورسول الاسلام -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وتسلمه مقاليد شئونها وأصبح المسلمون قادة للمدينة المنورة ظهرت هذه الفئة الضالة المضلة. إذن يمكننا القول: إن هذه الفئة لا تظهر بين المهزومين أو المضطهدين وإنما بين الغالبين المنتصرين.. لا تظهر بين الضعفاء ولكن تظهر بين الأقوياء.
بالعودة إلى تعريف النفاق، دعونا نضع نقاطا على الحروف. عرفنا بدءا ذي بدء أن «النفاق» يعني الاستماتة، وهذه هي النقطة الأولى. أما النقطة الثانية أن النفاق يظهر بين أصحاب القوة والسيطرة، وحيثما تكون القوة يكون النفاق. وحيثما يكون الضعف يكون شيئا آخر اسمه «التقية». على كل حال «التقية» ليست موضوعنا، لكن الشيء بالشيء يذكر.
لكن ما الذي يجعل النفاق يستميت للارتباط بالقوة وأهل القوة؟ سؤال ساذج.. أليس كذلك! حسنا، القوة تعني النفوذ والنفوذ يعني تحقيق مصالح دنيوية؛ وهذه النقطة الثالثة.
المصلحة ولا شيء سوى المصلحة هي الدافع لأهل النفاق في استماتتهم للارتباط بأهل القوة. الآن عرفنا ثلاث نقاط فوق حروف مفردة «النفاق» وهي تحديدا : الاستماتة.. القوة.. المصلحة. والآن أيضا يمكننا أن نضع تعريفا للنفاق.
من خلال جمع هذه النقاط الثلاثة، يمكننا القول إن النفاق يعني «الاستماتة في الانتساب لأصحاب الموجة العالية بقصد تحقيق مصلحة ذاتية دنيوية».
استداركا، ما يزال هذا التعريف ناقصا. لماذا؟ لأننا لم نحدد ماهية الاستماتة.. كيف تتجسد.. كيف تتبلور.. بمعنى آخر كيف تظهر استماتة المنافقين في سعيهم للانتساب لأصحاب الموجة العالية.. كيف تنعكس تصرفا وعملا وفعلا وقولا؟. ببساطة تتجسد من خلال التطرف والغلو والطغيان. وهذه هي النقطة الرابعة.
إذن النفاق يعني «الاستماتة تطرفا وغلوا وطغيانا في الانتساب لأصحاب الموجة العالية بقصد تحقيق مصلحة ذاتية دنيوية» وهنا تحديدا يقفز سؤال لطالما ظل يحيك في النفس ما شاء له أن يحيك.. أين نبحث عن المنافقين؟