إنَّ من الأيام العظيمة، والمواقف النادرة تلكم التي يمن الله فيها باجتماع الكلمة، ووحدة الصف، وغلبة منطق العقل والحكمة في المواقف والملمات، والحوداث والمدلهمات، وهذا ما اعتدناه من رجل المهمات، وداعية السلام، وملك الحكمة، صاحب الرأي السديد، والبصيرة النافذة، وراعي المبادرات النوعية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - أيده الله -، فما أن تدلهم الخطوب، أو تنزل بالأمة نازلة، أو يسوء الفهم لقضية ما بين الأشقاء والأصدقاء إلا ويقيضه الله رجلاً مباركًا، وقائدًا حكيمًا، تجتمع عليه القلوب، وتعرف له قدره وحكمته، فيقدم ما يرضي الله عز وجل، ويكون سببًا في زوال أسباب الخلاف وتقريب وجهات النظر، واجتماع الكلمة، وائتلاف الصف، ويذكر التأريخ له بفخر واعتزاز مواقفه الأخيرة - وليس لها آخر - ومنها رعايته للمصالحة بين دولتين شقيقتين، تمثّل كل منهما قوة مهمة في الصف العربي، وفي وحدة العرب واجتماع شملهم، تلكم المصالحة التي يتحقق منها مصالح عظيمة للأمتين العربية والإسلامية في العاجل والآجل، إنه موقف يسجله التاريخ بكلمات من نور، ويسطّره بأحرف من ذهب، ويكتبه بمداد يبقى محفورًا في ذاكرة الأجيال.
إنه موقف يسر القلب ويسعد النفس، والعبارات تعجز، والمفردات والمعاني البلاغية تقصر عن أن تؤدي هذا الموقف حقه، إنه موقف الطود الأشم، والقائد الفذ، والفارس العربي الشجاع ملك الإنسانية والمواقف الصعبة، في منعطف تاريخي، لا يملك أي مواطن بل أي مسلم إلا أن يشكر الله عز وجل على توفيقه لهؤلاء الأفذاذ أن يضمدوا الجراح, ويسعوا لجمع الكلمة وتوحيد الصف, وإننا حينما نسلط الضوء من وجهة نظر شرعية فإننا نجد أن ما رعاه خادم الحرمين الشريفين - أيده الله - من مواقف المصالحة والتقارب ونسيان الماضي هو موقف شرعي، بل إنه بغاياته وآثاره مقصد من مقاصد الشريعة يلمحه المتأمل في جوانب عديدة، وأحكام كثيرة، من أركان الإسلام إلى تفاصيل الفروع وجزئياتها، فالألفة والاجتماع والاعتصام بحبل الله, ونبذ الفرقة والخلاف والاختلاف، مقاصد شرعية، ومبادئ مرعية، ورد الأمر بها في كتاب الله سبحانه الذي جعل ذلك من أجل نعمه، فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }، وقال مبرئًا رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين تبع له من أن يكونوا من أمة التفرق والتحزب {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.
ويمتن الله على رسوله بحصول هذه الألفة، وأنه لولا فضل الله لم تكن، فقال: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، وبيّن الله في آية ثالثة أن الفرقة والاختلاف سبب لضعف الأمة بل وفشلها وذهاب الهيبة، فقال سبحانه: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، فما أعظمها من خطوة مباركة، وعمل جليل ينطلق من هذه النصوص، ويحقق هذه المقاصد، ويرأب الصدع، ويفوّت الفرصة على المتربصين، في وقت نحن بأمسّ الحاجة إلى ذلك، وفي ظرف بالغ الأهمية والحساسية، فهو وقت فتن ومتغيرات، وظروف وتحولات تمثّل الوحدة والاتفاق والاجتماع عاصمًا من تداعياتها وآثارها، وإن مسؤوليتنا كمواطنين ومسؤولين أن نحمد الله على توفيقه لحكيم العرب، وعرّاب الحكمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - أيده الله -، وأن نلحّ على الله جل وعلا أن يجمع القلوب، ويرأب الصدع، ويوفق القادة إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين وأوطانهم، كما أن من مسؤوليتنا المهمة التناغم مع هذه المواقف، وصد كل من يشكك أو يشوّش أو يشغّب على مثل هذه المواقف، فإن من الاجتماع المطلوب وحدة الرأي وتوحيد الكلمة مع الولاة والعلماء، فذلك مما يظهر قوة التماسك، وعظم الشأن، فتحمُّل المسؤولية تجاهها يتم به التغلب على المعضلات، وبانتهاج الحكمة تتحقق القوة.
وبعد: فإن من حق مليكنا على كل مواطن وكل مسلم أن يلهج بالثناء والدعاء بأن يحفظه الله قائدًا موفقًا، وإمامًا مسددًا، وملكًا ناصرًا لدين الله، قائمًا بمسؤوليته خير قيام، وأن يديم عليه نعمه، ويسبغ عليه فضله، ويكلأه برعايته، ويطيل في عمره، ويمده بالمزيد من الصحة والعون والتوفيق، إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لشؤون المعاهد العلمية - والأستاذ في المعهد العالي للقضاء، عضو لجان المناصحة