كارل بيلت - خافيير سولانا - ستوكهولم - مدريد:
عندما خاطب البابا فرانسيس البرلمان الأوروبي في نوفمبر - تشرين الثاني الماضي، شبه البرلمان الأوروبي بالجدة - اللطيفة الدمثة التي تحمل خبرات ثرية ولكنها تفتقر إلى حيوية وطاقة الماضي. وقال البابا فرانسيس إن الوقت حان لكي يتخلص زعماء الاتحاد الأوروبي من صورتهم الناعسة وأن ينتبهوا إلى التحديات التي تواجهها أوروبا، وأن يعكفوا على صياغة سياسة واضحة للتعامل مع هذه التحديات.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن توصيف البابا كان دقيقاً بشكل مخيف في بعض الجوانب. ولكن برغم تكاسلها وإنهاكها ظاهرياً، فإن أوروبا تحتفظ بمواطن قوة كبرى. فهي تُعَد مركزاً لمستويات عالية من الفِكر والإبداع؛ وهي موطن لبعض أكثر المناطق والصناعات تنافسية في العالم؛ ولعل الأمر الأكثر إبهاراً أن أوروبا نجحت في بناء مجتمع وسوق تضمان نصف مليار إنسان.
ولكن العالم يتغير: إذ تؤثِّر منطقة آسيا والمحيط الهادئ بشكل متزايد على التطورات العالمية والاقتصادية وغير ذلك من التطورات. ومن المرجح أن تعمل اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ - والتي بموجبها تؤسس الولايات المتحدة وإحدى عشرة دولة أخرى منطقة تجارة حرة إقليمية كبرى - على التعجيل بهذا التحول (وبوتيرة أسرع إذا انضمت الصين في نهاية المطاف). ورغم أن الشراكة عبر المحيط الهادئ تواجه عدداً كبيراً من العقبات التي يتعيَّن عليها أن تزيلها قبل أن يتم وضع اللمسات الأخيرة على الاتفاقية، فإن إمكاناتها فيما يتصل بتعزيز قوة آسيا الاقتصادية لا يمكن التقليل من شأنها. ويتعيّن على أوروبا أن تعمل على تأمين موقعها في النظام العالمي الجديد، بدءاً بتعزيز علاقاتها التجارية والاستثمارية مع الولايات المتحدة. والمشكلة هي أنه مع تقدم المفاوضات الخاصة باتفاقية الشراكة، أصبحت المحادثات بشأن شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة غارقة حتى رأسها في الخلافات الداخلية إلى الحد الذي قد يؤدي إلى إحباط المشروع برمته.
والواقع أن كبار رجال الأعمال على جانبي الأطلسي مقتنعون بأن نجاح اتفاقية شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي من شأنه أن يجلب فوائد اقتصادية كبيرة، وهو التصور الذي تعزّزه دراسات عديدة. غير أن بعض القضايا التافهة - على سبيل المثال، استخدام الدجاج المطهر بالكلور وتسوية النزاعات الاستثمارية- تستمر في الهيمنة على المناقشة. إن الهدف من شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي يتلخص في إطلاق العنان لقوة الاقتصاد عبر الأطلسي، وهي المنطقة التي تظل إلى حد كبير السوق الأكبر والأكثر ثراءً على مستوى العالم، حيث تمثِّل ثلاثة أرباع النشاط المالي العالمي وأكثر من نصف تجارة العالم. (إذا فتحت عضوية شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي لاقتصادات أخرى - مثل تركيا والمكسيك وكندا- فإن الفوائد سوف تكون أعظم). والأمر الأكثر إلحاحاً من الفوائد المترتبة على إتمام الاتفاقية هو العواقب الكارثية المحتملة التي قد تنشأ عن الفشل. فبادئ ذي بدء، قد يعطي انهيار المحادثات بشأن شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي ذخيرة لا يستهان بها لأولئك في المملكة المتحدة الذين ينادون بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي؛ ولكن على العكس من ذلك، إذا تم تنفيذ شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي فمن غير الحكمة - وبالتالي من المستبعد - أن تنسحب المملكة المتحدة.
وعلاوة على ذلك، فإن التصور بأن المشاحنات الداخلية في الاتحاد الأوروبي قادته إلى إهدار فرصة إستراتيجية ربما يدفع الولايات المتحدة إلى التعجيل بفك ارتباطها بالقارة. ومن المؤكد أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن سوف ينظر إلى فشل الاتحاد الأوروبي باعتباره فرصة كبرى لممارسة المزيد من النفوذ على أجزاء من أوروبا.
وكل هذا يساهم في تعظيم خطر إستراتيجي أساسي شديد الوضوح: فإذا تعطلت شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي أو انهارت، في حين تقدّمت اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ إلى الأمام ونجحت، فإن التوازن العالمي سوف يميل بقوة لصالح آسيا - ولن تجد أوروبا سوى خيارات قليلة، إن وجدت أي خيارات، لاستعادة نفوذها الاقتصادي والجيوسياسي. عندما اقتُرِحَت شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي لأول مرة بدا الأمر وكأن أوروبا تدرك قيمتها. والواقع أن الاتحاد الأوروبي هو الذي دفع الولايات المتحدة، التي تشككت في مستهل الأمر في مدى التزام أوروبا، بإطلاق عملية التفاوض في يونيو- حزيران 2013. وكان الطموح آنذاك يتلخص في إتمام المفاوضات على مرحلة واحدة. فلم يكن أحد راغباً في تحمل محادثات مطولة - أو ما يصاحب ذلك من آلام سياسية.
ولكن زعماء الاتحاد الأوروبي تخلوا عن المشروع في الأساس، على النحو الذي يؤكّد مخاوف الأميركيين. وكافح المفاوضون لإحراز أي تقدم، في حين فرضت الجماعات المناهضة للعولمة سيطرتها على الخطاب العام، فقدمت شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي بوصفها تهديداً لكل شيء، من ديمقراطية أوروبا إلى عافيتها. وهذا كلام غير دقيق إلى حد خطير، ويتعيّن على زعماء الاتحاد الأوروبي أن يحرصوا على منعه من اكتساب المزيد من القوة من خلال تقديم حجة إستراتيجية لإتمام الاتفاق. كما يتعيّن عليهم أن يعملوا على تجديد التزامهم بإتمام المحادثات بنجاح في عام 2015 . هذا لا يعني أن حل القضايا المتبقية في المفاوضات بشأن شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي سوف تكون بسيطة. ولكن إتمام اتفاقية التجارة، وخاصة تلك التي يترتب عليها الكثير من القضايا التنظيمية، أمر صعب دائماً، حيث ينبغي لها أن تضع في الحسبان تعقيد وتقلب الاقتصادات الحديثة.
- كارل بيلت/ رئيس وزراء السويد ووزير خارجيتها سابقاً، وعضو مجلس الأجندة العالمية لأوروبا في المنتدى الاقتصادي العالمي حاليا.
- خافيير سولانا/ الممثّل الأعلى للاتحاد الأوروبي لشؤون السياسة الخارجية والأمن، والأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي سابقاً، وعضو مجلس الأجندة العالمية لأوروبا في المنتدى الاقتصادي العالمي حالياً.