لو مُنعت الشركات في عصرنا الحديث من الاستحواذ على شركات أصغر لما سمعت أنت بشركة آبل أو قوقل أو حتى مايكروسوفت. فعملية الاستحواذ والسيطرة على شركات جديدة بمثابة إكسير الحياة الذي يحول العجوز الشمطاء إلى شابة فاتنة في مقتبل العمر. عمليات الاستحواذ الناجحة تمد الشركات بدماء شابة وتزيدها نشاطاً وتجعلها أكثر ابتكاراً وأسرع إنتاجية وأقوى تواجداً بالأسواق.
كما توجد صفقات استحواذ حققت فائدة هائلة للشركات المُستحوذة، هناك استحواذات أطاحت بشركات اعتلت القمة. أسباب استحواذ الشركات الكبيرة على الصغيرة لا يكون فقط لمجرد الحصول على منتج مبتكر تقدمه شركة ناشئة وإن كان ذلك أحد أهم الأسباب. تعرف الشركات جيداً أنه من السهل شراء شركة تقدم تقنية مبتكرة بدلاً من العمل الشاق لسنوات في محاولة ابتكار تقنية منافسة.
لهذا تسارع الهوامير من الشركات باقتناص الشركات الناشئة الصغيرة أحياناً حتى قبل إطلاق المنتج «المُبتكر» نفسه. أيضاً كثير من صفقات الاستحواذ تهدف للسيطرة على القوة السوقية التي تتمتع بها شركة ما أو ما يسمى بالاستحواذ البشري حيث تحصل الشركة المسيطرة على عدد مشتركين ضخم بضربة واحدة. والطريف أن عملية تقييم الشركة المُسيطر عليها تكون عبر حساب عدد مستخدميها ومن ثم إعطاء سعر محدد لكل واحد منهم ويتجاوز المبلغ أحياناً خمسة مائة دولار لكل «رأس» أقصد مستخدم. أحياناً تستحوذ الشركات لغرض الحصول على الموهبة ويكون ذلك عبر شراء شركة ما وإقفالها وضم مهندسيها الموهوبين للشركة المُستحوِذة. فالشركة المُستحوِذة تريد فقط الاستفادة من العقول البشرية بالشركة المُسيطر عليها عبر عملية توظيف جماعي لعامليها. أما «أخطر» أنواع الاستحواذات فيتم عبر شراء شركة منافسة ليس للاستفادة من منتجاتها أو عقول موظفيها أو قوتها السوقية بل لمنعها من الاستمرار بالمنافسة ولهذا يحصل ملاكها على الملايين من الدولارات وتقفل الشركة وربما يسرح كثير من موظفيها بعد سنوات عبر عملية «قتل رحيم» لاسم الشركة وتواجدها بالأسواق. لهذا سنستعرض بهذه المقالة أشهر عمليات استحواذ الشركات التقنية بالتاريخ. وسنبدأ بأفشل الاستحواذات بالتاريخ، ثم أغلاها، ثم نختم بالجزء الثالث بأنجحها.
1- أفشل عمليات الاستحواذ بالتاريخ: هناك استحواذات تسببت بخسائر طائلة للشركات المستحوذة بينما تسببت استحواذات أخرى بتقليل الأرباح أو زيادة المخاوف أو حتى العبث بأسهم شركة ما. لكن معايير تقييم مستويات الفشل الأعظم يتجسد بحالات عدة منها مثلاً عندما تسارع الشركة المستحوذة بـ بيع الشركة الجديدة بعد أسابيع أو شهور من شرائها أو حتى اقفالها تماماً. أما أقسى وأفشل عمليات الاستحواذ تلك التي تتسبب بانهيار الشركة المستحوذة.
- استحواذ شركة نيوز كورب على موقع ماي سبيس: إذا كنت تتجاوز السادسة والعشرين من العمر، فلربما كنت تملك صفحة على ماي سبيس للمواقع الشخصية ونجم شبكات التواصل الاجتماعي السابق. اشترت نيوز كورب موقع ماي سبيس بمبلغ تجاوز النصف مليار دولار في عام 2006 أي بعد عام من انطلاق موقع فيس بووك الذي أزاح ماي سبيس سريعاً من دائرة اهتمام الشباب والمراهقين حول العالم. نيوز كورب وبعد محاولات فاشلة عدة لإحياء ماي سبيس، قامت ببيع الموقع قبل ثلاثة سنوات بمبلغ بخس قُدر بـ 35 مليون دولار، أي ما يقارب 7 بالمائة من قيمة الشراء. ويظل السؤال قائماً، لماذا لم تشتري نيوز كروب موقع فيسبوك (الناشئ بذلك الوقت) بدلاً من موقع ماي سبيس؟ ربما لتحتل موقعاً مهماً في هذه المقالة.
- استحواذ شركة ياهو على موقع برودكاست دوت كوم: قامت شركة ياهو (والتي أصنفها بالشركة الأغبى بالتاريخ وسأشرح ذلك بمقالة لاحقة) بشراء موقع برودكاست دوت كوم لمقاطع الفيديو (تليفزيون على الإنترنت) بمبلغ سخي جداً (كعادتها) تجاوز ستة مليار دولار في عام 1999. ياهو لم يسعفها ذكائها البدائي في تقييم تجربة مشروع لعرض مقاطع الفيديو في عصر الدايل آب أو الاتصال عبر الهاتف في ذلك الوقت. سرعات الإنترنت البطيئة كانت بالكاد تكفي لتحميل صحفة إنترنت نصية ولهذا كان من المستحيل مشاهدة مقطع فيديو. الفكرة كانت ساذجة بذلك الوقت والسعر كان جداً مبالغ به (قوقل اشترت يوتيوب بمبلغ مليار ونصف بعام 2006، قارن بين الصفقتين). بالطبع لم يستغرق الأمر أكثر من شهور ليختفي موقع برودكاست دوت كوم من خارطة الإنترنت ويمكن أن تخمن أين اختفى مهندس الصفقة.
- استحواذ واندماج «اي أو إل» وشركة تايم وارنر: أضخم وأفشل وأغرب وأسوء ووووو.. كان استحواذ شركة «اي أو ال» الأمريكية مزود خدمة الإنترنت والإيميل والأخبار (بذلك الوقت) على تايم وارنر عملاق الترفيه العالمي لشبكات التلفاز والأفلام في عام 2001. دفعت «اي أو ال» مبلغ خرافي تجاوز 165 مليار دولار (3 أضعاف ميزانية النفقات بالسعودية بنفس العام) لدمج تايم وارنر تحت جناحها لـ تنشأ شركة جديدة تحت مسمى «اي أو ال تايم وانر». بعد عام واحد فقط من الاستحواذ والاندماج، وبعد انفجار فقاعة الإنترنت الشهيرة التي رفعت قيمة شركات الإنترنت للمليارات، وبعد انهيار المئات من شركات الإنترنت في ذلك الوقت، سجلت الشركة الجديدة أكبر خسائر مالية بالتاريخ قاربت المائة مليار دولار (يستحيل أن تحطم أي شركة هذا الرقم الجبار) ولهذا اتضح سريعاً فشل عملية الاستحواذ وفقدت شركة «اي أو ال» 200 مليار دولار من قيمتها السوقية بخلال أسابيع.
الطريف أن الانفصال وقع بين الشركتين في عام 2009 لتصحيح الخطأ الكوارثي الأشهر بالتاريخ، ولكن هذه المرة قامت شركة تايم وارنر بتحويل شركة «اي أو ال» إلى شركة منفصلة لتعود المياه إلى مجاريها. لتدرك فداحة هذه الكارثة، اعرف أن قيمة «اي أو ال» السوقية في عام 2001 كانت تصل إلى 220 مليار دولار واليوم لا تتجاوز قيمتها ثلاثة مليار دولار (قوقل بعام 2001 لم تتجاوز قيمتها المليار دولار واليوم أكثر من 360 مليار دولار).
استحواذ فاشل صُنف على أنه الخطأ الأكبر في تاريخ عمليات الاستحواذ. استحواذ حول «اي أو ال» من شركة الإنترنت الأولى بالعالم في ذلك الوقت إلى شركة على الهامش لا يعرفها 90 بالمئة من قراء هذه المقالة.
2- أغلى عمليات الاستحواذ بالتاريخ: لا نناقش بهذا الجزء أفشل أو أنجح الصفقات بل أغلاها في مجال شركات الإنترنت حول العالم. جميع عمليات الاستحواذ التالية تمت في السنوات الثلاث الأخيرة وهذا يدل على ارتفاع قيمة الشركات التقنية في العقد الجديد من هذه القرن وربما يعتبر مؤشراً على اقتراب فقاعة إنترنت جديدة بعد الأولى التي انفجرت قبل خمسة عشر عاماً.
- استحواذ شركة مايكروسوفت على شركة سكايب: سارعت مايكروسوفت بالاستحواذ على شركة سكايب للتواصل الفوري في عام 2011 بمبلغ تجاوز 8 مليار ونصف بعد شائعات انتشرت بذلك الوقت عن دخول قوقل وفيسبوك في مفاوضات جادة مع سكايب. بالرغم من أن عدد مشتركي سكايب لم يبلغ ثلث مشتركي ويندوز لايف ماسنجر في ذلك الوقت إلا أن مايكروسوفت فضلت التخلي عن برنامجها الخاص في سبيل تبني سكايب في استقراء مستقبلي لسوق برامج التراسل الفوري. سكايب يأتي اليوم مثبت في جميع أنظمة تشغيل ويندوز ويدر عوائد سنوية تصل إلى 2 مليار دولار ويعتبر من أنجح صفقات مايكروسوفت في تاريخها.
- استحواذ شركة قوقل على شركة موتورولا: فاجأت شركة قوقل العالم وهي المشرفة على نظام تشغيل الهواتف الذكية الأفضل والأكثر استخداماً بالعالم «الأندرويد» في استحواذها على قطاع الهواتف في شركة موتورولا الأمريكية في عام 2011 في صفقة ضخمة بلغت 12 مليار دولار. أفصحت قوقل عن نيتها في دخول عالم صناعة العتاد وأعلنت عن خطط طموحة لإنتاج هواتف ذات قدرات فائقة. لكن قوقل تراجعت بعد عامين من إتمام الصفقة وبعد خسائر طائلة تلقتها شركة موتورولا وأعلنت عن فصل الأخيرة إلى وحدتين باعت إحداهما إلى شركة لينوفو الصينية والأخرى إلى مجموعة آريس بمبالغ بيع وصلت إلى 4 مليار ونصف دولار. اعترفت قوقل بفشل الصفقة ولكنها أكدت استفادتها الكبيرة من هذه التجربة وكررتها قبل شهور بشراء شركة نيست في محاولة أخرى للتحول إلى شركة للعتاد.
- استحواذ شركة فيسبوك على تطبيق واتس آب: قد يكون هذا الاستحواذ الأشهر حالياً والأكثر جدلاً. فشركة فيسبوك دفعت مبلغ خيالي قدر بـ 19 مليار دولار توزعت ما بين مبالغ نقدية وحصص أسهم للاستحواذ على تطبيق التراسل الفوري واتس آب وهو الأشهر والأكثر استخداماً بالعالم حيث يفوق عدد مستخدميه حالياً رقم النصف مليار مستخدم. فيسبوك دفعت هذا المبلغ الخيالي للاستحواذ على التطبيق والاستحواذ على القاعدة الهائلة من المستخدمين التي دفعت الشركة حوالي 42 دولار مقابل كل واحد منهم. يعتبر هذا الاستحواذ هو الرقم الأعلى في التاريخ بين الشركات التقنية وبالتحديد الخاص منها بالإنترنت وبفرعه الأسخن حالياً «الهاتف المحمول». تسعى فيسبوك للسيطرة على شبكة التواصل الاجتماعي الخاصة بالهاتف المحمول الأقوى بالعالم بعد أن ضمنت بسط سيطرتها على شبكة التواصل الاجتماعي عن طريق استخدام الحواسيب الشخصية. بالرغم من أن الرقم يبدو مبالغ به وربما ينذر بخسائر مستقبلية عندما تعجز فيسبوك عن استرجاع قيمة الشراء وتحقيق أرباح مجدية، إلا أن صفقات الاستحواذ السابقة التي قامت بها فيسبوك وأشهرها تطبيق الانستغرام ترسل مؤشرات بأن الفيسبوك لن تخسر وستكون قادرة ربما في المستقبل القريب (3-6 سنوات) على الحصول على أرباح تزيد عن مبلغ الشراء. فشركة فيسبوك استطاعت زيادة عوائدها المالية بخلال خمس سنوات من صفر إلى ثمانية مليار دولار.
3- أنجح عمليات الاستحواذ بالتاريخ: المؤشر في دخول صفقات الاستحواذ إلى سباق الأنجح والأفضل بالتاريخ يكمن في سبيين: 1- التكلفة والربحية.. 2- قدرة الاستحواذ على إحداث تغيير هائل. فيجب أن تكون تكلفة الشراء معقولة وأن يكون باستطاعة الشركة المستحوذة تغطيته من دون الاخلال بميزانياتها. أيضاً يجب أن تعود الصفقة بفائدة ربحية عالية على الشركة المسيطرة. وأخيراً نقيس قدرة هذا الاستحواذ على تغيير تاريخ وحاضر ومستقبل الشركة المُستحوذة ولا يكون ذلك إلا باحتلال الصدارة والقمة في المجال نفسه.
- استحواذ شركة قوقل على موقع يوتيوب: تم افتتاح موقع اليوتيوب في فبراير 2005 أي بعد شهر من إطلاق قوقل لموقع الفيديو الخاص بهم. اتضح سريعاً تفوق اليوتيوب واحتلاله للموقع الأول عالمياً متفوقاً على مواقع الفيديو الخاصة بقوقل وياهو ومايكروسوفت. هذا التفوق دفع قوقل لشراء الموقع في أواخر عام 2006 بمبلغ بخس بلغ مليار ونصف دولار. اليوتيوب اليوم يعتبر مكتبة العالم الرقمية الأولى لمقاطع الفيديو بلا أي منافس ويحتل الموقع الثالث عالمياً من حيث عدد الزيارات ويدر عوائد سنوية «قُدرت» بـ 4 مليارات دولار. تمكنت قوقل بهذا الاستحواذ المنخفض التكلفة من احتلال موقع الصدارة في قائمة مواقع المحتوى الرقمي وأصبح الموقع الوجهة الأولى وتقريباً الوحيدة لمشاهدة المقاطع المجانية للفيديو. بسبب تكلفة الشراء المنخفضة والعوائد العالية التي يدرها الموقع وتبوئه قمة العالم للمحتوى الرقمي، صُنفت صفقة الاستحواذ على اليوتيوب بأحد أنجح الصفقات بالتاريخ.
- استحواذ شركة «إي بي» على موقع بي بال: استحوذت «إي بي» على موقع بي بال لدفع المال عبر الإنترنت في عام 2002 بمبلغ لم يتجاوز مليار ونصف دولار. بي بال يعتبر اليوم البنك الافتراضي الأضخم بالعالم ويدر عوائد خيالية بلغت 6 مليار ونصف بالعام المنصرم ويتكفل تقريباً بنصف أرباح شركة «إي بي» للمزادات وبيع البضائع عبر الإنترنت. ساهم بي بال في إضفاء الثقة والأمان على التعاملات التجارية التي يجريها موقع «إي بي» وأضحى اليوم البيضة الذهبية التي تدر أرباح خيالية وأحد أهم الصفقات بالتاريخ. لتدرك مدى أهمية بي بال بالنسبة لشركة «إي بي» اقرأ الجملة التالية. شركة «إي بي» تخطط لفصل موقع بي بال عن الشركة الأم لأن الموقع سيتمكن العام القادم من تجاوز عوائد وأرباح «إي بي» نفسها. عندما تستحوذ على شركة وتضمها تحت جناحك ثم تتحول إلى شركة أكثر ربحية من شركتك الأم، تتحول صفقة الاستحواذ هذه إلى أحد أهم الصفقات بالتاريخ. سوق التعاملات المالية الافتراضية سيشهد قريباً انفجاراً سيضاعف من عوائد وأرباح بنوك الإنترنت بعد توسع الشركات في التعاملات المالية عبر الهواتف المحمولة خاصة بعد دخول شركة آبل السباق عبر نظامها «آبل بي» وسيكون لموقع «بي بال» نصيب الأسد من هذه الكعكة «إن لم تخرجها آبل من السوق عنوة».
- استحواذ شركة قوقل على شركة الأندرويد: ماذا ستفعل لو مُنحت مبلغ 50 مليون دولار للاستثمار في مشروع ما؟ قوقل نجحت في شراء نظام أندرويد بمبلغ 50 مليون في عام 2005 ونجحت بعد أقل من خمس سنوات من الإطلاق في تحويل الأندرويد إلى منصة الهواتف الذكية الأولى في العالم في حصة سوق خرافية تبلغ 85% من مجموع المبيعات حول العالم. الشاشات المنزلية الثلاث هي شاشة تلفازك وكمبيوترك وهاتفك المحمول وقوقل استطاعت امتلاك أقرب الشاشات إلى قلبك وأكثرها استخداماً بحواسك وهو الهاتف المحمول (باستثمار لم يتجاوز قيمة مبيعات نصف ساعة من نفطنا «غير» الناضب).
قوقل تبوأت بهذا الاستحواذ الأسطوري المرتبة العالمية الأولى في أنظمة الهواتف الذكية وأثبتت أنها الشركة الأولى بانتهاز الفرص النادرة واغتنام الشركات المتفوقة واقتناص المواهب العبقرية. بالرغم من أن قوقل اعترفت بأن ثلث الشركات التي اشترت بتاريخها اثبتت فشلها إلا أن استحواذات بحجم الأندرويد واليوتيوب والجي ميل والخرائط تكفي قوقل أمد العمر حتى لو فشلت جميع صفقاتها السابقة واللاحقة. لا شيء يعادل حجم النجاح الهائل لاستحواذ الأندرويد بتاريخ الإنترنت إلا حجم فشل استحواذ تايم وارنر.
الاستحواذ على نظام الأندرويد واحتلاله للمرتبة العالمية بخلال سنوات يثبت بأن الفرصة مواتية لجميع الشركات حول العالم لتغير التاريخ، فقط باستحواذ واحد، إما تغيير يطير بالشركة إلى قمة العالم، أو تغيير يسقطها منه. إن لم تستطع منافسته، قم بشرائه. إن لم تستطع أن تكون قوقل، فلا تكن إي أو إل.
سلطان المصادري - كاتب ومحاضر سعودي