قبل أن تصل مكنة الإرهاب المفلوتة في كثير من دول العالم العربي والإسلامي خاصة.. إلى (باريس) من خلال الاعتداءين الإرهابيين الآثمين على كل من مجلة (شارلي ايبدو) يوم الأربعاء قبل الماضي.. و(السوبر ماركت) اليهودي في يوم الجمعة الذي تلاه، واللذان أسفرا عن سقوط سبعة عشر قتيلاً - بينهم أربعة من اليهود الفرنسيين، ومسلم فرنسي من
أصل جزائري - وأحد عشر جريحاً.. وصدمة سياسية مروعة لفرنسا والفرنسيين، ورئيسهم (الاشتراكي) فرنسوا هولند، أول المناصرين للقضية الفلسطينية من بين دول المعسكر الغربي الثلاث دائمة العضوية في مجلس الأمن.. حملته لدعوة الفرنسيين جميعاً إلى مظاهرة سلمية كبرى تندد بـ(الإرهاب) وتعارضه وتنكره في بلد الحرية والعدالة والمساواة، وفي العالم بأسره.. تبدأ من ميدان الجمهورية (لا ريبوبليك) إلى ميدان الأمة (لا ناسيون)، فلباها أكثر من مليون ونصف المليون فرنسي.. إلى جانب حشد من ملوك ورؤساء حكومات ووزراء خارجية دول العالم أجمع.. تقديراً لـ(فرنسا) وأدوارها وحباً لها.. إلى الحد الذي قال معه الرئيس هولند، وقد أحاطت به تلك الحشود من كل أقطار الأرض: (إن باريس اليوم.. هي عاصمة العالم)!! فكان جميلاً أن يكون الرئيس محمود عباس - رئيس السلطة الفلسطينية - في مقدمة حضور تلك المظاهرة السلمية الفرنسية.. والسير في صفها الأول إلى جانب بقية الرؤساء.
.. قبل ذلك كله كان صديقي القنصل الفلسطيني في جدة السفير الدكتور عماد شعث.. قد دعاني لحضور الاحتفال بـ(اليوبيل الفضي) للثورة الفلسطينية.. أي بـ(ذكرى) مرور خمسين عاماً على انطلاقاتها في الأول من يناير من عام 1965م على يد الثائر (أبو عمار).. الرئيس الفلسطيني الشهيد فيما بعد (ياسر عرفات).. في مساء يوم الثلاثاء - الماضي - الثالث عشر من يناير بأحد فنادق جدة، الكبرى المعروفة.. فهنأته بـ(الذكرى) مع وعد مؤكد بـ(الحضور) - إن شاء الله - رغم الأشجان أو الأحزان التي أثارتها دعوته ومناسبتها!!
* * *
في صبيحة يوم الاثنين السابق لحفل (الذكرى).. كانت الصحف المحلية.. تسبح في طوفان إخباري مصور عن (المظاهرة الفرنسية) السلمية الرائعة التي غدت (تاريخية) بحضورها الأممي، وبـ (المظاهرات) المؤازرة والمؤيدة لها داخل مدن فرنسا، وخارجها.. كبروكسل وفيينا ومدريد ومونتريال وبرلين ومدن الخليل ونابلس ورام الله.. في الضفة الغربية، وعن انطلاق مسيرتها من ميدان الجمهورية.. إلى ميدان الأمة، وقد بدا في وسط صفها الأول: الرئيس الفرنسي هولند وإلى يساره المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فأحد الرؤساء - غير المعروفين - فرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، بينما وقف إلى يمينه الرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كيتا، فأحد الرؤساء - غير المعروفين أيضاً - فرئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو)!! الذي أدهشني بقدر ما استفزني وجوده في هذه المظاهرة التي تندد بالإرهاب.. وفي الصف الأول منها، وهو الإرهابي المعروف، هو وحزبه (الليكود)!! حتى وإن قيل إن وصوله إلى الصف الأول.. إنما كان بحيلة السلام على الرئيس المالي بمصافحته.. والتحدث إليه!! لكن كيف قدم إلى (باريس) ومن دعاه..؟! فإن كان سقوط الأربعة اليهود من بين قتلى العمليتين الإرهابيتين.. هو الذي دعاه، فقد كان يكفيه وجود السفير والقنصل الإسرائيلي في (باريس).. في هذه المظاهرة، ولكنه أراد أن يهتبل (فرصة) المظاهرة.. ليتقرب من (فرنسا) وليبيض صورته الإرهابية الدموية التي ماتزال قائمة بـ(اغتيالاته) الدائمة المستمرة للفلسطينيين، وسجونه الإدارية لمعارضي الاحتلال.. وهدم منازلهم، واقتلاع أشجارهم وبـ(منعه) دخول مواد إعمار المستشفيات والمدارس والمباني التي دمرها عدوانه الأخير على (غزة).. والتي لم يسمح بدخولها إلى غزة إلا بعد أن هددته كبريات دول أوروبا الغربية الصديقة له.. بـ(المقاطعة) الاقتصادية، لكنه مع كل ذلك.. استطاع أن يشارك في (المظاهرة)، وأن يكون في الصف الأول منها.. بل وأن يصحبه الرئيس هولند إلى الكنيس اليهودي الكبير في (باريس).. ليشارك في مراسم تأبين (كل) ضحايا العمليتين الإرهابيتين..!!
ولذلك.. فقد كنت ما أزال مكروباً عندما وصلت إلى مقعدي في قاعة الاحتفال بـ(الذكرى) .. بصور تلك التغطيات لـ(مظاهرة) فرنسا التاريخية التي تندد بـ(الإرهاب).. والإرهابي الأكبر (نتنياهو) يتصدر صفها الأول عند انطلاقتها من ميدان الجمهورية إلى ميدان الأمة!! ليحييني أحد الإخوة الفلسطينيين بحرارة.. وهو يذكرني بحضوره وحضوري الاحتفال بـ(الذكرى) الخامسة والعشرين لانطلاقة الثورة الفلسطينية!! وكلمتي التي ألقيتها فيها آنذاك، ليزيدني تذكيره.. كرباً على كرب!؟ فها هي السنون تمضي.. من ذكرى (برونزية) إلى ذكرى (فضية).. وربما يقودنا حالنا إلى ذكراها (الذهبية) بمناسبة مرور خمس وسبعين عاماً عليها!! دون أن يتحقق (حلم) قيام الدولة الفلسطينية، بعد أن لاحت تباشيره مع (اتفاق أوسلو) عام 1993م.. بعودة القيادة الفلسطينية من مهجرها في (تونس) إلى (غزة وأريحا) فـ(الضفة الغربية) بكاملها مع تطبيق مرحلتيه الأولى والثانية، والتي جرت فيها انتخابات رئاسية شارك فيها أبناء القدس الشرقية لانتخاب قائد الثورة (أبو عمار)، الذي أصبح أول رئيس منتخب للدولة الفلسطينية.. إلى أن اغتال (الليكود) وزعيمه الخلف لشامير (إريل شارون) المرحلة الثالثة - والأخيرة من اتفاق أوسلو، بدعم (حقير) من أمريكا (كلينتون) التي خطفت التوقيع عليه في عام 93م.. لتتباهى بـ(إنجازه)، ثم عادت لـ(تغتاله) في آخر سنوات دورتيه.. ليحل محله دعم أكثر حقارة - فيما بعد - من الرئيس الجمهوري الخلف (جورج بوش الابن)، الذي كان على علم واسع وعريض بـ(الصياعة) بأضعاف معرفته وعلمه بـ(السياسة)!! ليعود الرئيس محمود عباس مهندس (أوسلو) الحصيف من الجانب الفلسطيني - بعد واحد وعشرين عاماً من الصبر والتحمل والأناة مع (كاديما) بداية و(ليكود) نتنياهو نهاية ومع محادثات جون كيري.. بشهورها التسع دون الوصول إلى نتيجة تحسم الخلاف بين الطرفين (الفلسطيني) و(الإسرائيلي) حول الحدود والمستوطنات، والقدس وحق العودة - مجدداً إلى (مجلس الأمن) وبعد أن مرت سبعة وأربعون عاماً أو سبعة وستون عاماً على عام التقسيم في عام 47م، والذي اشترته (أمريكا) ترومان من ثلاثة عشر دولة لصالح التقسيم.. طلباً لـ(الاعتراف) بـ(الدولة الفلسطينية) على حدود الرابع من يونيه من عام 67م ووضع سقف زمني لـ(الاحتلال) الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فتخذلها نيجيريا - الدولة العضو في منظمة التعاون الإسلامي - نيابة عن اللايات المتحدة الأمريكية.. لتوفر أحد (فيتوهاتها) - وما أكثرها ضد فلسطين والفلسطينيين - إلى المرة القادمة.. عندما يعرض الموضوع ثانية على مجلس الأمن، كما يتردد أو يشاع.
* * *
على أي حال.. وسط كروبي وهمومي التي أخذتني بعيداً.. بدأ حفل (الذكرى الخمسين) للثورة: فلسطينياً بكله.. بـ(قهوته) و(تمره) وكوفيته الفلسطينية التقليدية، التي طوقت أعناق المدعوين جميعاً.. بينما كانت شاشة عرضه السينمائية التي توسطت صدر القاعة، تقدم صوراً من الكفاح والنضال الفلسطيني ومعاناته، ومذابحه التي لم يتعرض شعب لمثلها.. إلى جانب ألبوم من صور شهوده وشهدائه من الرموز الفلسطينية.. من عرفات إلى (أبو نضال) إلى (أبو إياد) إلى حكيم الثورة جورج حبش، ليبدأ الحفل بتلك الآيات الكريمة الرائعة عن الإسراء إلى (الأقصى).. فكلمة دبلوماسية بارعة للدكتور شعث المثقف والأديب والفنان، الذي استطاع أن يجعل من الجميع أصدقاءً له.. وجنوداً وسفراءً للقضية الفلسطينية، ليعقبه الأستاذ محمد أحمد الطيب مدير عام وزارة الخارجية بالمنطقة الغربية، ومندوب المملكة لدى (منظمة التعاون الإسلامي).. بكلمة تاريخية ضافية عن القضية الفلسطينية منذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الصادر عنها في 29 نوفمبر 1947م.. والقاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين: (عبرية).. قامت، و(عربية).. تكافح الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من أجل عدم قيامها إلى يومنا هذا.. ليكون بحق نجم حفل (الذكرى الخمسين) للثورة الفلسطينية.. دون منازع.
* * *
مع صوت محمد العساف والدبكة الفلسطينية الجميلة تجلجل تحت أقدام الشباب الفلسطيني (الأمل).. كنت أغادر القاعة مغالباً همومي وأحزاني، وسؤال ثقيل ممض.. يتغشاني: متى يحتفل الفلسطينيون ونحتفل معهم بـ(إنجاز) الثورة الفلسطينية.. لا بـ(ذكرى) قيامها..؟!