الفتن الجسام التي سُطرت في كتب التاريخ والسير، ورصدها مؤلفو تلك العصور وعلماؤها ووصفها بعضهم وصفاً دقيقاً كأنك تراها رأي العين، لا أظن أنها بلغت في أهوالها ما يشهده عالمنا الإسلامي في هذا الزمان. أمواج متلاطمة هوجاء تعصف من كل الأرجاء لتملأ الأجواء من حولها رعباً ودماراً وخراباً بفعل أيدٍ شريرة آثمة، تحركها عقول مأفونة مجرمة، استمرات التعطش للسفك والفتك والبطش دون هوادة.
قساة القلوب هؤلاء على اختلاف توجهاتهم يتلذذون بمرأى الدم المسفوح، والمال المسرق، والعرض المنتهك، والأرض المستباحة، والجموع المشردة، ويتباهون بهذه الممارسات الإجرامية التي زينها لهم الشيطان فانساقوا وراء وميضها، ومادروا أنها النار بعينها {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} سورة الكهف (103-104). بلادنا ولله الحمد والمنة بما أنعم الله عليها بهذه النعم الوفيرة ومنها الأمان والاستقرار، أثبتت بوحدتها الفريدة أن العقيدة الصحيحة وتطبيق شرع الله يجعل المجتمع في منأى عن الإنجراف والتخبط في أتون تلك الفوضى و مسبباتها {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } (67) سورة العنكبوت. إن مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية بإرادة صلبة بعد توفيق الله سبحانه وتعالى (جعل من بلادنا واحة أمان في محيط مضطرب)، كما عبر عنها سمو ولي العهد الأمير سلمان بن عبدالعزيز في خطابه نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظهما الله-، في مجلس الشورى قبل أيام، لكن فعل الأسباب وإعداد العدة لمواجهة الأخطار المحدقة من كل حدب وصوب، حمايةً لهذه العقيدة وقياماً بالمسؤولية العظيمة، كان ولايزال هو الشغل الشاغل لولاة الأمر حفظهم الله. إن هذه الأمانة التي تحفظ عقيدة المجتمع صافية، ليعيش أفراده آمنين، و تحرس الدين ممن يروم النيل منه، هي ما يجعل بذل الأنفس والغالي والنفيس فداء لوطن يحتضن الحرمين الشريفين بين جنباته، ويفخر مليكه بأنه خادم لهما. نسأل الله أن يرفع منزلة الذين قضوا من رجال الأمن عنده في عليين، وأن يجبر مصاب أهليهم، ويشفي المصابين.
من هذه المنطلقات والغايات النبيلة، وقطعا لدابر الشر والأشرار الذين يتربصون بالأمة بين الفينة والأخرى، حذّرت المملكة العربية السعودية مراراً وتكراراً من الإرهاب وتبعاته المدمرة على الجميع، وشجعت على الوسطية والاعتدال والتسامح، ونبذ كل أشكال التطرف والغلو،
ودعت لحوار الأديان والثقافات ومحلياً للحوار الوطني غاظ الخوارج الجدد مايرون من هذا التلاحم بين القيادة والشعب، وما يتحقق من إنجازات تنموية باهرة، وأدوار حيوية شجاعة، لرأب الصدع وحل الخلافات التي تطرأ بين الإخوة على الصعيدين العربي والإسلامي، فازدادوا غيظاً إلى غيظهم و مكراً إلى مكرهم، فماتوا بهما معاً {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} (119) سورة آل عمران.
لكن أنّى لأعينٍ غشاها القذى أن تبصر، وأنّى لقلوب علاها الران والصدى أن تعي، وأنّى لآذان صُمت عن سماع الحق أن تستمع مصرّة أن تعرض، يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (124) سورة طـه. عجباً لأمر قاصري الفهم أولئك، عندما تكون نقمتهم على أوطانهم التي أحسنت إليهم، فكان الجزاء أن سفهوا الجميع حكاماً وعلماء ومواطنين، فحكموا بالكفر على من لا يوافق آراءهم الشاذة، وتشددهم وغلوهم، وأعجب من ذلك أن تكون هذه التخرصات مبنيةً على هشاشة من هوى وزيغ وضلالات، ما أنزل الله بها من سلطان، وأين؟! في بلد دستوره القرآن وسنة خير الأنام محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه و على آله و أصحابه أجمعين!! بلاد تزخر بالعلماء الربانيين الأفذاذ، ومنارة للعلم الشرعي حيث ينهل العطشى من معينه صفاء العقيدة وخلوصها.
ولا ينقضي العجب حين نعلم أن لهؤلاء أسلافاً في القرون الأولى المفضلة، تسببوا في (الفتنة الكبرى) بمقتل ذي النورين المبشر بالجنة، الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وحكموا بكفرالخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حينما قبل التحكيم، وكذلك كفروا كثيراً من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. يحسبون أنهم بفهمهم القرآن بما لم يدل عليه
-وأوردهم المهالك- أنهم دعاة و هم كذلك، لكنهم (دعاة على أبواب جهنم من أطاعهم قذفوه فيها)، الدعاة على بصيرة. المؤتمنون على الفتوى، هم أولئك الذين عرفوا بتقواهم، وإخلاصهم، وعلمهم، يرشدون الخلق لما ينفعهم في دينهم ودنياهم وأخراهم.
أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمجادلتهم لا بنصوص القرآن فحسب، بل أورد لهم عمل الرسول صلى الله عليه وسلم و سنته و بين لهم أن الخطأ في العمل لا يقتضي الكفر. ناظرهم بن عباس رضي الله عنه فرجع منهم أربعة آلاف، فقاتل علي البقية بعد ما سفكوا الدم الحرام، وقطعوا السبيل.
مثال فهمهم القاصر والأمثلة كثيرة كما أوردها مؤلف دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين قولهم في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} سورة عبس 38 - 42
بأن الفاسق على وجهه غبرة، فوجب أن يكون من الكفرة، في حين أن هذه الآيات التي احتجوا بها تصف حال المؤمنين و الكفار في الآخرة.
الواجب إذاً هو الحذر من تلبيسهم و تزيينهم باطلهم، والتشنيع على الحق الذي عند غيرهم، للتأثير على أفكار الشباب -هدفهم الرئيس- بدعاوى ظاهرها الرحمة و باطنها من قبلها العذاب، والحجة الواهية فيها أنها دعوة للخير وغيرة على الدين، ألم يَبنِْ من كان قبلهم مسجد الضرار زاعمين بأنه لعبادة الله، وإقامة الصلاة فكشف الله سرائرهم وما يضمرونه من عداوة للدين و أهله {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } (107) سورة التوبة. ما أشبه هؤلاء بأولئك. حفظ الله بلاد الحرمين الشريفين، المملكة العربية السعودية، من كيد الكائدين وحسد الحاسدين وتسلط المفسدين إنه ولي ذلك والقادر عليه.
خطر هذه الدعاوى الضالة على الثوابت في ظل هذا الموج الهادر من الفتن والشبهات والشهوات لا يمكن التقليل من شأنه والقول بأنه عابر، مالم يتصدى له بكل ما أوتينا من قوة، حماية لوحدتنا ومستقبل أجيالنا، أولاً بتجفيف كل المنابع التي تمد هذه النبتة الخبيثة لاجتثاثها من جذورها، تزامناً مع حملات توعية مكثفة وبخاصة في الأوساط التي تبين تأثير تلكم الأراجيف والأباطيل فيها، مجتمعهم الذي نشأوا فيه من أفضل المجتمعات تربية وحصانة وهم قد ولدوا على الفطرة لكن الشياطين اجتالتهم مصداقاً للحديث الشريف، بقي العزيمة و الإصرار على مواجهة الخطر الداهم و القضاء عليه والوسائل بفضل من الله و منة متاحة، دينيةً وأمنيةً وتعليميةً وإعلامية، توجيهاً وتثقيفاً وإرشادا.