الموت غاية كل حي {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، وإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث كما جاء في الحديث الصحيح، وبالموت تُطوى حسنات الإنسان وسيئاته {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.. ويقول سبحانه ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
هذه حقيقة وعقيدة لكل مسلم، ولكن المصيبة العظمى من يموت وهو حي بسبب موت ضميره وتبلُّد إحساسه وعدم مبالاته وما أكثر هؤلاء اليوم في عالمنا المعاصر في الداخل والخارج، وكل ما نراه اليوم من جنوح وضياع وخيانة من أفراد أو جماعات أو دول إنما هو بسبب موت الضمير، لأن الضمير هو ذلك القلب النابض الذي يمد صاحبه بالإحساس ومراعاة شعور الآخرين والعمل على حفظ دمائهم وأموالهم وأعراضهم وعقولهم، وهو عنوان سعادة الإنسان في حياته لأنه يمده بالراحة والاطمئنان وسلامة الصدر.
ومتى مات ضمير الإنسان فقلْ على صاحبه السلام، فقد قطع حبل التواصل مع غيره وأصبح إمعة لا يحب إلا نفسه ولا يحزن لحزن غيره ولا يأبه بكسبه من حلال أو من حرام، ولا يشعر بحاجة غيره إليه، يكون أنانياً منعزلاً لا يعلم ما يدور حوله، وهذا طريق الفشل في الحياة، وإن أدى موت الضمير إلى التعدي على حقوق الغير والإخلال بالواجب فإن صاحبه يأثم ويندم على تفريطه، وما موت الضمير إلا نتيجة لضعف الإيمان في القلب، لأن قلب المؤمن قوي الإيمان حي نابض واع غيور محب للخير يحب لغيره ما يحب لنفسه، ويألم لألم غيره ويحزن لحزنه، ومن مات ضميره فعدمه خير من وجوده، لأن موت الضمير قد يؤدي إلى إلحاق الضرر بغيره، ولكن لا نيأس من هدايته وعودة ضميره إليه، لأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم رحمة منه بخلقه.
ومن أشد حالات موت الضمير ترك الواجب أو التهاون في أدائه سواء كان واجباً لله أو للمخلوق، وكذلك إذا أدى موت الضمير إلى التعدي على الأنفس والأموال وأكل المال بالباطل، ومن ذلك ما يحصل من الفساد المالي والإداري وعدم النزاهة الوظيفية كل ذلك بسبب موت الضمير حتى يهون العمل السيئ على صاحبه ويخل بأمانته.
ومن الأدوية الفاعلة في علاج موت الضمير: الإكثار من ذكر الله {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.. ويقول سبحانه: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}، لأن موت الضمير من الشيطان الذي يزين للإنسان سوء عمله حتى يراه حسناً فيعيش في الظلمات وهذا عمى البصيرة الذي هو أشد من عمى البصر {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
ومن الأدوية النافعة في علاج موت الضمير: الخوف من الله ومراقبته في السر والعلن، فإنه متى عمر القلب بالخوف من الله فإن ذلك عون على حياة ضمير صاحبه، فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ومراقبة الله مصدر كل فعل حسن وطريق الرحمة والعطف والمواساة، ولا يجد الشيطان سبيلاً إلى قلب عامر بالإيمان وطاعة الرحمن.
حياة الضمير تعني إحساسه بما يدور حوله وإعطاء كل ذي حق حقه، وهذا أمر يهم كل مسئول تحمّل الأمانة، فلتحيا ضمائرنا ونحس بمن حولنا ونؤدي الأمانة على الوجه الأكمل فهذه حياة القلوب ولا قيمة للبدن بدونها، ومن مات ضميره فهو كالميت وإن كان حياً لأنه يصبح جسداً بلا روح.. وكلما ضعف الضمير كلما تأخرت ساعة الوعي وكأنما على ضمائرنا أقفالها.
ثم إن الناس أصناف مع ضمائرهم: فصنف ضميره ظاهر حي يعرف المعروف وينكر المنكر يشارك أمته همومها وآلامها وآمالها، يواسي ويتوجع، لا يخاف في الله لومة لائم.
وصنف من الناس ضميره مستتر لا محل له من الإعراب ولسان حاله يقول: نفسي نفسي فلا يستفيد منه فقير ولا ينصح مستنصح وكأنه خلق ليأكل ويشرب، ومثل هذا إن لم يتعاهد ضميره فسيكون مع الزمن في عداد الضمائر الميتة.
وصنف ثالث: وهو الضمير الميت الذي يغلب شره خيره أو لا خير فيه يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف.
إن الضمير الحي هو مضخة الإيمان الحقيقي المكمل للتواد والتراحم والتعاطف وهو جامع الأعضاء في جسد واحد وهو جسد الأمة المتكامل كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [رواه مسلم].
إنه لو حاكم كل واحد منا نفسه أمام ضميره لعلم أن شجرة الضمير الغافل لا تثمر أبدًا.. وأن من بالغ في الاستسلام لما يمليه عليه ضميره إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر فإن ضميره سيجره إلى ما لا تحمد عقباه ما لم يكن هو الحارس الأمين يدله على الخير وينهاه عن الشر.
ومن الأدوية الناجعة: محاسبة الضمير في كل لحظة ومعرفة ما له وما عليه ؛ حتى يستيقظ من غفلته، فنعوذ بالله من القلب الغافل وقد قيل: المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فاللسان يترجم ما في القلب ويخرجه للواقع، وكل إناء بما فيه ينضح.
- المعهد العالي للقضاء