على ماذا تنشأ الأحداث وبأي وازع أو باعث تتصرف الأمم في هذا الاتجاه أو ذاك، لماذا يقتل الإنسان إنسان ولماذا تغتال أمة أمة أخرى ولماذا تتنافس الحضارات وتتصارع وأخيراً ليس آخر لماذا نبحث عن السيادة على كرامة البشر؟ وما الذي يجعل الولايات المتحدة الأمريكية في عصرنا الحاضر هي الحاكم والرجل المطاع بلا منازع؟
إن ما ينطبق على الإنسان الفرد في هذا الكون هو ذاته ما ينطبق على الأسرة والمجتمع والشعب والأمة والحضارة، وإذا كان الإنسان محكوم بحب الذات والتملك فإن هذا لا يعيبه وقد خلقه الله سبحانه وتعالى بهذه الفطرة، لكن القضية تأتي في صراع الذات والتملك ذاتها، ويكون الأمن والرخاء والعيش أولى ثلاثية الاهتمام والانتباه التي تستدعي الحرية والقوة والوفرة لتأمين الثلاثية الأولى، والحرية والقوة والوفرة في الثلاثية الثانية تستوجب أدواتها الخاصة المتغلبة على أدوات الآخر ومن هنا ينشأ التنافس والصراع والقتل، أي أنها وببساطة إن الإنسان لا يبحث عن تكوين ذاته بكل ما يشبعها وإنما يبحث عن السيادة والتحكم لتأمين هذه الذات، والواقع أن هذا هو حال المجتمعات والشعوب والأمم والحضارات، وإذا كنا عرفنا حضارات مختلفة متنوعة على مدار التاريخ لأمم كثيرة ذهب اغلبها لصفحات التاريخ وإن بقيت لها آثارها إلا أن ثلاثة أديان سماوية بقيت منذ ظهورها شاخصة في كل العصور وإن توارت لحين من الوقت، هذه الأديان هي اليهودية والمسيحية والإسلامية، وهي أديان تتفق برغم كل شيء على قواعد العدل والإنصاف وتنظيم حياة الناس، ولو لا حب السيادة والتحكم لما ظهر اختلاف أو خلاف بينها فهي من مصدر إلهي واحد ورسائل مكملة لبعضها بعضاً، ابحث إذن عن بذرة الحدث لتجد أنها فقط الخوف والخوف وحده، وهو كالبحر تقبع فيه قواقع الحسد والأنانية وحب التملك، وإذا كان المنتصر في أي صرع هو الإنسان فإن الخاسر أيضاً هو ذاته الإنسان، التاجر في مواجهة كساد السوق يخفض هامش الربح ليزيد مبيعاته فيحقق إيراداً أكبر، وهو بالضبط ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية في عصرنا الحاضر، إنها قوة مرهوبة الجانب محققة لأرقى ما توصل له العقل البشري حتى اليوم، وهي مقتدرة بكل كفاءة على حماية نفسها ووجودها لكنها بدافع الخوف تخلق الحدث ليس دفاعاً عن حوزتها أو خوفاً من خطر يهددها ولكن كالتاجر تخفض مؤشر الأمان لتحقق إيراد أمني أكبر.
في منطقتنا العربية تتوفر ثروات جغرافية وطبيعية وتاريخية تسيطر عليها نظم أشبه بالبدائية وشعوب لازالت في طور الأمية لكن لها تاريخ ورسالة، إن توفر لها الأمن والاستقرار نظرت إلى ما حولها وسعت للتقدم والتنافس فيكون خلق الأحداث في داخلها رغم أنه يستنزف البشر والمال واستقرار الثروات التي ذكرتها آنفاً إلا أنها تحقق إيراداً أمنياً أكبر، إن من ناحية السيادة أو الاقتصاد أو الإنتاج وإلى آخره، الأمر إذن بديهي ومدرك ولا يستحق تلك السطور السابقة لتوضيحه ولكن الصادم للعقل أن تعي وتدرك ولا تنهض، والبغيض حقا أن تكتشف أن من تولي الذود والقيادة عن الأمة هرع ليكون مسوقاً لذاك التاجر حتى وإن اختلف دوره من حليف إلى معادي، كلاهما قبل ما هيئ له وسعى لحمايته.
من الصعب الحديث عن خيانة إلا في القليل ولكن من السهل جداً إدراك مدى السذاجة، وقد نعذر في مرحلة النشء والتأسيس سذاجة من قبل بالقليل من العطاء مقابل الكثير من التبعية، فالإنسان بطبعه وهو حتى فرد راغب في السيادة والتحكم مقابل ما قد يراه كافياً لتأمين خوفه وحماية ذاته، فهذه تشبع غريزة التملك فيه، وهذه الغريزة تتصاعد وتكبر على حساب فطرة أخرى سليمة وهي كينونة العطاء، ومن أقسى نتائج هذه العملية الذاتية داخل النفس متى كانت حاكمة ومسيطرة أن تنشر هذا المفهوم داخل مجتمعها وشعبها فتنمو الطبقية والنخبوية والتميزية بين الناس ويصبح الصراع بينها والتنافس في المظهر والشكل على حساب القيم والمبادئ، ومتى ساد هذا الفهم أو هذه الثقافة في مجتمع أو شعب أو أمة ذات إرث ورسالة فإن صراع داخلي وإن لم يظهر على السطح تثاءب واستفاق، وحين ينهض ويصد ويحارب لحماية ما هو واقع أو مسمى باستقرار وأمن فإنه لا ينهزم ولكن يغلو ويخرج من الواقع للخيال بحثاً عن قوة خارج الكون لا منطقية لها لو لا أنه لا يملك الخيار فقد أصبح خارج الواقع، سواء عاد لينسجم مع المفهوم والثقافة المستجدة المبنية على الأنانية والتملك في تنافس حول القيمة لا القيم أو بقي في عالمه حالم بقوة ساحرة تنصره.
وحين تزكي الولايات المتحدة الأمريكية هذا الصراع بين الجناحين المتزاحمين في صراع الهوية والثقافة في منطقة ما فإنها تحكم الطرفين وتستخدم لهما ميزاني العجز والفائض لتغذية أرصدتها من القوة والهيمنة والسيطرة إلى أطول أجل ممكن مع تأمين ذاتها من نهضة حضارية منافسة لها، وما يستحق التأمل حقاً هو أن دول تعرضت للاستعمار وقد سبقتها دول عربية كثيرة في التخلص من المستعمر ومع هذا وصلت اليوم لمرحلة قوية من التحرر والإنتاج والاستقرار في حين لا زالت معظم الأقطار العربية ما دون التأسيس إلى اليوم، وليس هذا وحسب بل إنها اركست لتعود من جديد إلى ما قبل الدولة من الأساس، فمن المسؤول يا ترى؟ هل هو العقل البدوي المترسب بالوجدان العربي أم طلاسم الشكل الديني المثمر؟.. أغلب الظن كلاهما.