.. في مهرجان ((الجنادرية)) الثاني التقينا ولي العهد عبدالله بن عبدالعزيز..
كنا برفقة عدد كبير من المفكرين والمثقفين العرب الذين تنوعت مشاربهم واتجاهاتهم الفكرية.. وكان ذلك اكبر حشد من المثقفين يشهده مهرجان، فقد دعينا حتى نحن الذين نحاول فك طلاسم الكلمة.
عدد قليل لم يحضر.. أبرزهم محمود درويش وعبدالرحمن منيف.. بعد أن سرت بين أهل الثقافة شائعة تقول: ((إن السعودية بدعوة كل هذا العدد لمهرجان الجنادرية.. تسعى لابتزاز المثقفين واجبارهم على التوقيع على بيان أعدته إدارة المهرجان.. لخدمة أهداف المملكة وشق صف اليسار الثقافي العربي)).
ونحن في الطريق للقاء ولي العهد عبدالله بن عبدالعزيز.. همس لي بمثل هذا الشاعر ممدوح عدوان.. دون أن يخفي مخاوفه.
دخلنا وسلمنا وجلسنا.. وربما ظن من صدق الشائعة أن هناك من سيأتي ليوزع عليهم ((البيان)) لقراءته قبل توقيعه..
لكن لم يكن هناك سوى... عبدالله بن عبدالعزيز.
كان في أجمل حالاته.
بشوشاً.. مرحاً.. لماحاً.. وسريع البديهة.
قال: ((دعيتكم للسلام عليكم انتم طليعة الأمة وقادتها.. وأنا أكثر الناس تقديراً لدور الكلمة.
يا إخوان دوركم أكبر من الدور الذي تؤدونه الآن.. وتأثيركم يجب أن يكون أكبر مما هو عليه.. في أخذ زمام المبادرة وإصلاح وضع السياسة العربية التي تشهد الفُرقة والتمزق)).
تحدث عن المهمة التي كان عائداً لتوه منها.. بعد أن كلفه الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله.. بالقيام بمهمة خاصة وشبه سرية.. لتحقيق الصلح بين الشقيقتين سوريا والعراق.. وبين الزعيمين حافظ الأسد وصدام حسين.
كان يشعر بالألم والأسف لأن المهمة لم تحقق النجاح المطلوب.. ودعا المثقف العربي.. لتولي وإدارة الأمور التي لا ينجح الساسة في تجاوز عثراتها.. لأنه يعول على دور الكلمة وفاعليتها وقدرتها على التأثير والحسم.
تحدث عن نفسه.. وعن الاستشارات الأمنية الأجنبية الصديقة.. التي أكدت أنه من المستحيل تأمين حمايته.. وهو يلتقي بالناس في جموع غفيرة ويجلس معهم ويسمع شكواهم في مستوى أمني يعتبرونه بدائياً في عرف الأجهزة الأمنية المتخصصة.. وأنهى دورهم الاستشاري برفضه مقترح عدم لقاء الناس.. أو الحد من عددهم.
حقق أمنه الشخصي بالاندماج وليس بالعُزلة.. وأمام باب قاعة عرض مهرجان الجنادرية.. كنا نرى بين الحرس من يقف في انتظار قدومه للسلام عليه عند وصول موكبه.. وكنت ترى بينهم أشخاصاً مثل الدكتور هاشم عبده هاشم.. وكان يومها صحفياً صغيراً لا يصل لولي العهد للسلام عليه وقول ما لديه على عجل.. إلا بتلك الطريقة التي لها شيء من الخصوصية المهنية.
يومها كنا سعداء بذهول واندهاش المثقف والمفكر والأديب العربي.. من شخصية هذا الرجل العظيم.. التي تناقض كل ما عرفوه لدى الدخول للسلام على رؤساء بعض الدول العربية.. حيث تفرض عليهم أجهزة الأمن خلع حتى ((ساعة اليد)) وحفظها في الأمانات.. قبل الدخول لمجلس الرئيس.
كان ذلك اللقاء درسا مبدئيا لأخلاق وسلوك عبدالله بن عبدالعزيز، فبعد أن أصبح ملكاً توالت الدروس.
لم تكن تدري في حالة دهشتك.. ماذا أتعلم منه..
لكن دهشتك تزول وأنت ترى أثره على أبنائك وأهل بيتك وكل من تعرف.. ولا تغضب من ابنك وهو يجادلك بحرية وصراحة وانطلاق ويختم حديثه قائلاً: ((الله يخلي عبدالله بن عبدالعزيز..خلانا ان عندنا لسان مهو بس عشان نقول.. طيب.. وسم.. وإن شاء الله.. لكن عشان نعبر عن رأينا بصراحة ودون خوف من أي احد))..
لم يكن عبدالله بن عبدالعزيز ملكاً.. تهابه وتخشاه.. وتلتفت يميناً وشمالاً عندما تسمع اسمه وترى صورته على الشاشة.
لكنه كان ملكاً..كل ما فيك وكل من حولك يتسابق على حبه.
ملكاً أسس فينا مشاعر وطنية من نوع خاص.. فبعد أن كنا نرى أن كل من يكتب كلاماً جميلاً عن الوطن ويمدح مسؤوليه هو إنسان ((منافق)).. أصبحنا نرى أن كل من يعبر عن هذه المشاعر.. لا يقول إلا أقل القليل مما يجب أن يقال.
رحم الله.. الأب.. القدوة والمُعلم عبدالله بن عبدالعزيز.
- عبدالله باخشوين