** (العظماء لا يرحلون)..
تظل منجزاتهم وإن غابت أجسادهم وهذا هو الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز عليه رحمة الله.. انتقل من ظهر الأرض إلى بطنها، ومن قصر الأسمنت إلى قلوب الناس.
كان -رحمه الله- ملكاً وإنساناً ومحباً لوطنه وشعبه، وقد أنجز وأعطى وأضاف إلى ما قدمه أسلافه في منظومة التنمية في هذا الوطن الأغلى.
** من الصعب أن اختزل عمرًا حافلاً بالعطاء وبالإنجاز في مقالة أو مقالات لكن سأتناول بعض سجايا الراحل الكبير الملك عبدالله - جعل الله قبره روضة من رياض الجنة -، سأتناول بعض هذه السجايا من خلال مواقف شرفت بمعايشتها شخصياً أو رواها أصفياء مقربون له رحمه الله.
* * *
-1-
** محبته لأي منجز يقدمه أبناء وطنه**
** أذكر عندما كان -رحمه الله- ولياً للعهد ورئيساً للحرس الوطني أنني سافرت إلى مصر للمشاركة في ندوة ثقافية وذلك بعيد انتهاء المهرجان الوطني للتراث والثقافة.. والتقيت بعدد من أدباء وكتاب مصر، وكان بعضهم حضر وشارك في مناشط «الجنادرية» الثقافية.. وتحدث عدد منهم في الندوة بالقاهرة، وفي جلساتنا الخاصة عن الحراك الثقافي الذي تعيشه المملكة سواء من خلال ما تقدمه، المطابع من كتب لأدباء سعوديين، أو من خلال ما تعج به المنابر الثقافية والأدبية، والمراكز العلمية من محاضرات وندوات وأمسيات فرسانها مثقفون سعوديون، ومثقفات سعوديات. فضلاً عن أحاديثهم بما رأوه من منجزات ثقافية كمركز الملك فهد الثقافي، ومكتبة الملك عبدالعزيز، ونادي جدة الأدبي، وغيرها.
** وعندما عدت إلى الرياض تواصلت مع سعادة وكيل الحرس الوطني ورئيس اللجنة التنفيذية لمهرجان «الجنادرية» د. عبدالرحمن السبيت على أساس كتابة خطاب للملك عبدالله الذي كان وقتها ولياً للعهد أبلغه -رحمه الله- عن تقدير وتثمين أدباء مصر لعطاء الأدباء السعوديين ومشاركتهم بالمنجز الثقافي العربي، لكن اقترح عليَّ الدكتور السبيت أنه بدلاً من ذلك يحسن أن التقي بالأمير عبدالله واقترح أن أجئ إلى جلسته برئاسة الحرس الوطني، ووعد بترتيب لقائي بسموه بعد أن ينتهي الناس من السلام عليه حتى أجلس إليه وأحدثه وفعلاً جئت وحسب الترتيب ذهبت إليه وسلمت عليه -رحمه الله- وقلت له: وددت إفادتكم بما سمعت من ثناء وتقدير عن مشاركة المثقفين السعوديين بالمنظومة الثقافية العربية وحديث أخوتنا الأدباء المصريين عنها واسترسلت بالحديث ثم ختمت حديثي قائلاً: لا أريد أن أخذ من وقت سموكم وهناك الكثير فقال غفر الله له: «أنت سريتني يا ولدي بما سمعت والحمد لله أن مدارسنا وجامعاتنا ومكتباتنا أفادت أبناءنا وأدباءنا، وأن كتبهم أصبحت معروفة ونافعة للعرب.. ثم قال استمر».. فأكملت ما كنت اختصرته.. ورأيت الفرح يكسي محياه بما سمع رحمه الله، وودعته بعد أن قال: «قل لإخوانك نريد منهم المزيد».
* * *
-2-
** إنسانيته وعطفه **
** هذا الموقف رواه معالي أ.إبراهيم الطاسان رئيس الشؤون الخاصة السابق يقول: كنا بجدة خلف الملك عبدالله في الموكب الملكي وإذا بالموكب يهدئ وإذا بسيارة الملك تخفف السرعة وتتجه يميناً واستغربنا ذلك.. ولكن ما لبثنا حتى رأينا الملك يؤشر لأحد المواطنين على الرصيف ويناديه بعدما رآه، يؤشر له رحمه الله وقد رفع أوراقاً بيديه، وإذا بالمواطن يأتي للسيارة، ويفتح الملك الزجاج ويحدثه ويأخذ أوراقه، وعندما وصلنا القصر وجه الملك بإنهاء موضوعه الذي حدث الملك عنه وإفادته بما يتم.
* * *
-3-
** بساطته وتلطفه **
** شرفت ذات عام بحضور إحدى مناورات الحرس الوطني السنوية، والتي كانت بالقصيم، مع مجموعة من الأسماء والأدباء ورؤساء التحرير، وحضرنا معه، رحمه الله المناورة التي كانت بالليل، وقد كان فيها أدوات حربية متطورة وفيها ذخيرة حية وتمارين عسكرية وكان المشهد - فعلاً - يشي بالقوة والاستعداد والرهبة أيضاً وعندما انتهت المناورة وكنا واقفين لوداعه رحمه الله، فمر من عندنا وسلمنا عليه ثم داعبنا قائلاً بتلقائية: «أنتم وش عندكم يا الأدباء» وكان معنا الأديب الراحل يحيى المعلمي رحمه الله فأجاب على الفور ببيت شعر جميل قائلاً: الله يحفظكم نحن كما قال الشاعر:
وللحروب رجال يعرفون بها
وللدواوين كتاب وحسَّاب
فضحك رحمه الله: وقال: «ما شاء الله عليكم حجتكم حاضرة».
** هذه بعض خصال الملك الراحل الذي نذر أغلى سنوات عمره لخدمة ديننا ووطننا.
* * *
-4-
** نماء وأمن الوطن من عبدالله إلى سلمان**
** عزاؤنا برحيل الملك عبدالله هو تسلم الراية من بعده الرجل الذي عاصر مراحل بناء هذا الوطن مع والده وأخوته خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز رجل الدولة القريب من المواطنين، الذي وصف توليه الحكم بأول كلمة «بالمسؤولية العظمى» وهو الذي يقرأ في كتاب ربه أن السماوات والأرض والجبال عرضت عليها الأمانة فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان.
الملك سلمان كما وصفه معالي الراحل د.عبدالعزيز الخويطر رحمه الله وهو القريب منه مسؤولاً ومؤرخاً في كلمة سمعتها منه كثيراً: «من توفيق الله لبلادنا وجود رجل مثل الأمير سلمان المعروف بحكمته وانضباطه عملاً ووقتاً وإنجازاً» وقد صدق.
* * *
-5-
** الملك سلمان وموقف رحمة مع امرأة **
** أختم مقالي بموقف إنساني عشته مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله-، كنت في لقاء في برنامج اجتماعي في القناة الأولى قبل سنوات نتحدث عن حقوق بعض النساء اللواتي سلبهن بعض الرجال حقوقهن واتصلت إحدى الأخوات المصريات التي شكت زوجها السعودي بأنه لا ينفق عليها وأهملها وأولادها وكانت دموعها تغالبها وهي تتحدث، وفي الصباح تلقيت اتصالاً في وقت مبكر من مكتب «الإنسان» «الملك الرحيم» أبي فهد يفيدني بأن طويل العمر -حفظه الله- سيكلمني وفعلاً حولوني وإذا به مهتم بموضوع هذه المرأة ويطلب معلومات عاجلة عنها لإنصافها ورفع الظلم عنها.
أي رحمة سكنت قلب سلمان تجاه امرأة غير سعودية استجاب لها بعد أن سمع شكواها وهي لم ترفع له شكوى.
إن دينه علمه أن أهم درجات الحاكم هو رفع الظلم وبسط العدل، وامتلاء قلبه بالرحمة وهنا يشعر المحكومون بالارتياح والأمن.
جعل الله له مثل هذه الأعمال من الباقيات الصالحات.
* * *
-6-
** وبعد!
هذه بلادنا عندما يغيب رجل عظيم يحل مكانه عظيم وعندما يرحل ملك يرفع الراية بعده ملك آخر في طمأنينة وهدوء وفق بيعة شرعية.
فكفكفي الدمع يا بلادي ولندعو لفقيدنا الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز بالرحمة والجنة، وندعو لخلفه الملك سلمان بالعون والتوفيق ورحم الله غازي القصيبي الذي قال عن وطننا ورجاله:
«منجم للرجال أرض بلادي
في ثراها تنزَّل القرآن»