من التلازم بين فطرةِ الله للعقل بأنه لا يَقَرُّ فيها أيُّ تصوُّرٍ يُخالف سنة الله الكونية، فهو سبحانه وتعالى خالق العقل، وخالقُ سُننِه الكونية ومُرَتِّبُها؛ ومن هذا التلازم علمنا أنه لا سبيل إلى معرفة ما تُمْكِن معرفته من الكون إلا بمبادئ العقل؛ لأنها المنطلق منها في التصور؛ ولأن المرجع إليها في الحكم..
وكل معرفة تُنسب إلى الحس أو التجربة (الحسِّ المُكرَّر) أو الإشراقة : فإنها لا تكون حقاً ولا خيراً ولا جمالاً -أو عكس كلِّ ذلك- إلا بحكم عقلي؛ فالعقل هو العارف على الحقيقة؛ لأنه يلتقط صورة ما أدركه من الموجودات كما هو، ويكوِّن علماً من عموم المحسوس، وهو علم العلاقات بين الموجودات، ويتصور ما يتكوَّن من هذه العلاقات قبل أن يكون، ويهدي إلى الناموس الصحيح تصوراً وافتراضاً، ويهدي حركةَ الجوارح؛ فيستقيم كل فعلٍ بالله ثم بهدايةِ العقل، ويُعاد كل فعل خاطئ إلى الصواب بهدايته؛ ولهذا جعل الله العقل شرط التكليف بشرعه، ومِن ذلك التلازم نعلم: (أن العقل يتلقَّى من الحس، ومن نَقَلَةِ الأخبار، ومن كل نتائج التجربة) أحكاماً خاطئة فتكون أفكاراً عقلية، ولكنه يرجع إلى مبادئه الفطرية فيعلم خطأ هذه الأفكار.. ومن خلال معلوماته الحسية -مِن علمٍ بوجود المقتضِيات وتخلُّف الموانع، أو جهل بهما-: يحصر أحكامه في حَيِّز الامتناع أو الوجوب أو الإمكان ولا رابع لهذه الاحتمالات.. إن مبادئه هي التي تمتحن أفكاره وتقصرها في هذه الأنحاء.. ويشتدُّ تشوُّف العقل إلى المعرفة والعلم، ويستكثر من فحص الوقائع لا ليصحح قوانينه، ولكن ليكتشف هُوية المشكوك فيه؛ فيُلْحقه بما ينطبق عليه من الوجوب أو الامتناع أو الاحتمال.. ومن وسائله في ذلك ترتيب بديهياته الكثيرة جداً المشتقَّة اشتقاقاً ضرورياً من مبادئ العقل وفق ترتيب الرياضيات؛ للاقتصاد في التفكير، وتسهيل الرجوع إلى العقل، وسرعة حسم النزاع.. إن الرياضي يختصر علم الرياضة اليقيني بوحداتٍ مُتفَّقٍ عليها؛ فمن المسلَّم به في الرياضيات أن 50×50 = 2500 وهذا أسهل عليه من عد الخمسين خمسين مرة.. وتبعد بديهيات العقل عما بُنيت عليه من بديهيات أخرى كما تبعد العمليات الحسابية عن حقائق الحس وهي في درجة واحدة من الصدق؛ فقولي: 5×5=25 قضية قريبة من التطبيق الحسي، وقولي: 5379×97135= 522.489.165 يعني أن الوِحْدةَ الأخيرة حقلُ مئةِ مليون، وهو قضية بعيدة عن التطبيق الحسي، وتحصيلُ القضية الأولى أسهل من الثانية.. ولكنَّ القضية الأولى ليست أصدق، بل كلاهما صادقتان.. ويُحتمل الخطأُ في أحكام العقل كما يُـحتمل في نتائج الرياضة إذا بعدت القضية، ولكنَّ ضابط الصحة موجود، وفيما أعلمُ وفوق كلِّ ذي علمٍ عليم: أن الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى سابِقٌ إلى هذه الظاهرة في تأصيله (الدليلَ) الذي هو الأصل الربعُ من أصولِ الظاهر مع اعترافه رحمه الله تعالى بأن الله لم يكتب له عِلماً بالرياضيات كالجبر والحساب والهندسة؛ وهذا أيضاً ما يتحلَّى به تلميذ عِلْمِه كاتب هذه السطور.. ولقد بخسني حقِّي مَن لم يفقهوه من المُشْرفِين على رسالتي المُعَدَّة لنيل الماجستير؛ فمنحوني في البديل الآخر (أحكام سورة الطلاق) التي جعلوها تحت قيود صارمةٍ لا أستطيع تجاوزها بالاستنباط الصحيح.. منحوني درجة (مقبول)؛ فالله حسيبُهم، ولا تزال هذه الرسالة الماجستيرية مُكيَّسَة عندي لم يسمح خاطري بنشرها، ولم أستفد منها وظيفيّْاً في الترقية؛ لأنِّي أبيتُ استلام شهادةِ (مقبول)، وكان خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله (رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، وجعلنا موفقين وإخواننا المسلمين أينما كُنَّا) هو الذي وزَّع الشهاداتِ يوم كان وَلِيّْاً للعهد، ولم أُرْسِل أحداً يستلمها بالنيابة عنِّي.. والناس أعداءُ ما جهلوا من الحق اللائح، والله يسامِحُ باخِسيَّ، وهو المستعان، وعليه الاتِّكال، ولقد سبقني الذين جاءوا بعدي بالتخرُّج؛ لأنَّ موضوع المَجستير الأوَّل ( ظاهرية ابن حزم ما لها وما عليها )، وبعد معاناةٍ مُتْعِبة مع المشرفِ مُدَّة سنتين نقلني إلى موضوع آخر هو (الظاهرية ما لها وما عليها)، وخلال هذه السنوات الأربع أُلْغيتْ بحوث ومُزِّقتْ، وقد قَذَفْتُ فيها سهر الليالي، وأذكر منها بحثي عن الغناء في حكم الشرع، وأعترف فيها أنني متعصبٌ للإمامين محمد بن داوود وابن حزم، شديد الانتصار لهما، وقد بلغت مئةً وعشرين صفحةً بخط يدي؛ فمُزِّقتْ إلا أنني استبقيت منها بما أعدتُ نسْخة بخط يدي ضميمة نُشِرت بكتابي عن مذهب الأصحاب.. أعني أهل الظاهر، وقد رجعتُ بحمد الله إلى الإنابة، فلم أكتبْ ما أحاسبُ عليه، وحرَّجتُ من روَّج ما نشرته ثم تراجعت عنه إلا اللَّمم؛ فإنه خير لي من إحسان العملِ، والنظرِ إليه، والإدلالِ به على ربي؛ وإنما أفوِّض الأمر إلى ربي، وأتعلَّق برجاء رحمتِه، وأتعلَّق بما أتشبثُّ به عند ربي من عمل خالصٍ صادق؛ ليحاج لي عند ربي مبتهجاً برجحان ميزان الحسنات وكثرة خيرات، وفقرِ ميزان السيئات وسعةِ رحمةِ ربي مع حديث قول الصحابة رضي الله عنهم (إذنْ نكثر)، وقولِ مَنْ وَسِع كلَّ شيئ رحمةً وعلماً: (الله أكثر).. وقولُنا: (كل ذي فعل كان موجوداً) مقدمة صادقة قريبة الاشتقاق من مبدإ السببية، وقولنا : (طرفا الخط المستقيم لا يلتقيان) مقدة صادقة؛ لأنها بديهة تجريبية لا يحتاج تصديقها إلا إلى إعادة التجربة، وهي قريبة الاشتقاق من قانون الهُوية؛ لأنه لو تُصُوِّر التقاؤهما لم يُتصوَّر ذلك إلا بتغيُّر الهُوِيَّة؛ فيكون الخط منحنياً.. وأكثر ما تبعد البديهيات عمَّا بنيت عليه من بديهيات قبلها إنما يكون في صياغة المسلمات اليقينية؛ لتحرير محل النزاع، واختصار الجدل.. وتكون هذه البديهيات حكماً باصطلاح لفظي كالحكم بصدق خبر التواتر؛ فهذا يُبرهَن عليه ببراهين متعدِّدة، ويؤلفها قانون الهُويَّة كحكمه من خلال هوية جماعةِ لم يتواطأوا على الكذب.. إلى آخر شروط التواتر: أنهم لا يتفقون على خبر كاذب؛ وإذن يعود العقل في إحالة كذبهم إلى المطالبة بأي حالةٍ شذَّت عن هذه الهوية.. أي أن يوجد من الخِبْرة خَبَرٌ هُوِيَّتـُه التواتر فاكتشفتْه الخبرة مكذوباً؛ فهذه البديهية حصلت من قانون الهوية ببُعْدٍ، واستغنَى الفقيه بمضمونها (إذا احتاج إليها) عن ردِّها إلى قانون الهوية، كما استغنى الحاسب بقضية 50×50= 2500 عن عدِّ الخمسين خمسين مرة.. واللغة رموز للموجودات تُقَرِّر مقاصد المتكلمين والمتخاطبين؛ فيجب أن نُحدِّدَ مفاهيمنا تحديداً يُزيل الاحتمال، وهكذا نطلب هذا التحديد من كل مُصْطنِعِ مذهبٍ، ونقف بحذر عند الأساليب الأدبية التي يعتريها الإجمال والعموم والاحتمال، وهي أمور تولِّدها شهوة القيم البلاغية والجمالية غير القارَّة وتُوصف تجوُّزاً بالبرهان الشِّعري.. ومن الضروري إبرازُ العنصر الفكري في كل ما يُسمَّى معرفة؛ لمعرفة نوع المعرفة التي تكون مجرد مضامين حسية عن كيفِيَّاتٍ وكميات، وأحياناً تكون علاقات بين موجودات حسية يُهتدى بها: إلى معرفة واقعٍ مُغَيَّب، وإلى معرفة صفات ذلك الواقع المغيب من خلال آثاره؛ وهذه العلاقات تختصر الفرضيات في مزاولة خبرة جديدة.. وإيجابية المبادئ العقلية تتراوح بين هذين العنصرين: (حتمية تصوُّر مقتضاهنَّ)، (واستحالة تصوُّرِ أضدادهن )؛ فالعنصران متلازمان يلزم من حتمية تصور مقتضاهن استحالةُ تصور غيره، وهكذا العكس.. ولا ينسف هذين العنصرين إلا وجود الحالة الشاذة عنهما؛ فإن استطاعت الخبرة مثلاً أن توجد في الواقع، أو تذكر من الواقع الموجود نقيضين اجتمعا فحينئذ يصبح هذا المبدأ العقلي الضروري وَهْمَاً لا يُعتمد عليه، ووجود ذلك المثال مِن الواقع مُحال.. وإذا وجدت كل مبادئ العقل هكذا -مخرومة في المشاهدة- فمعنى ذلك: أن العقل ليُوصِّل بمبادئه إلى أي معرفة؛ لأنه حينئذ لا ضابط لأفكاره، ولا مقنِّن لاحتمالاته، وهذا مُحالُ الاحتمالِ بخبرة البشرية التي لم تنخرم.
قال أبوعبدالرحمن : إذن الفلسفة منذ وُجِدت ليست هي ما يقرؤه الجمهور؛ لأنها مُنيتْ بالغموض والتعقيد -على الرغم من سهولة بسطها-؛ وكان هذا قَدَرَها في لحظتنا الراهنة، وكان شُغلي الشاغل تبسيطَها غايةَ الإمكان؛ لأن تيسير المعارف رسالة شريفة.. وكل مباحث العقل الفلسفي تراكمات من البحوث والمسودات والإحالات مخزونة لديَّ منذ أكثر من ثلاثين عاماً أو أكثر.. بل بعضها منذ أربعين عاماً أو أكثر مِنْذُ كان عمري ثلاثةً وعشرين عاماً.. وهذه المهاتفة مما أعددتُه مادةً من مواد سلسلة حديث الشهر رقم (29)؛ فإلى لقاء، والله المُستعانُ، وعليه الاتكال.