د. عبدالرحمن محمد السلطان
رغم أهمية التخطيط الاقتصادي في رفع كفاءة توظيف الموارد، وزيادة القدرة على حل الإشكالات الاقتصادية التي لا تقع بالضرورة في نطاق عمل جهاز تنفيذي بعينه، إلا أننا نجد ضعفاً في عملية التخطيط الاقتصادي في المملكة، وتعدداً في الجهات المسؤولة عنه. فهناك مثلاً وزارة الاقتصاد والتخطيط التي يكاد يقتصر دورها على إصدار خطط التنمية، ووزارة المالية التي تتولى بشكل منفرد مسؤولية تخصيص الاعتمادات المالية في ميزانية الدولة، وترتبط بها عدد من المؤسسات المهمة كمؤسسة النقد وصندوق الاستثمارات العامة وصناديق التنمية المختلفة، وهناك الهيئة العامة للاستثمار التي تُعنى بتطوير البيئة الاستثمارية، خاصة فيما يتعلق باجتذاب الاستثمارات الأجنبية، كما ترتبط بها مشروعات المدن الاقتصادية، ووزارة البترول والثروة المعدنية مخولة بوضع وتنفيذ السياسات الخاصة بالطاقة الإنتاجية ومستوى الإنتاج النفطي وقرارات الاستثمار المعدني، ووزارة الصناعة والتجارة معنية بكل ما يتعلق بالتراخيص الصناعية وتأسيس الشركات، وترتبط بها هيئة المدن الصناعية، ووزارة العمل التي تضع استراتيجيات توظيف العمالة المواطنة، ووزارة الإسكان التي تضع خططها الخاصة للتعامل مع مشكلة الإسكان المتفاقمة، وهناك الهيئة الملكية للجبيل وينبع، إضافة إلى جهات حكومية أخرى عديدة معنية بشكل أو بآخر بعملية التخطيط الاقتصادي. هذه الجهات تعمل في الغالب كجزر معزولة عن بعضها؛ ما حدّ من إمكانية تكامل جهودها، في ظل عدم وجود مظلة شاملة للتخطيط الاقتصادي في المملكة، كما هو الحال في الدول التي حققت نجاحاً مبهراً في هذا الشأن كسنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية.
من ثم، فإن التخطيط الاقتصادي في المملكة يعاني من تعدد الجهات المسؤولة عنه؛ وبالتالي عدم وجود جهاز واحد مناط به هذه المهمة. والمشكلة أننا عندما رغبنا في حل هذه الإشكالية التي يواجهها التخطيط الاقتصادي في المملكة قمنا قبل سنوات عدة بإنشاء المجلس الاقتصادي الأعلى مفترضين أنه بالهيكلية التي وضعت له سيقوم بدور مشابه للدور الذي يقوم به جهاز التخطيط الاقتصادي في سنغافورة، وهو هيئة التنمية الاقتصادية Economic Development Board (EDB)، إلا أنه قد يكون حدث خطأ في الترجمة؛ إذ ترجمت كلمة Board في اسم هذا الجهاز إلى «مجلس»، في حين أن هذه الكلمة تعني في سنغافورة شيئاً مختلفاً تماماً، هو Statutory board، الذي يقصد به هيئة عامة مستقلة عن الجهاز الحكومي، هيكلها الإداري من التكنوقراطيين الذين لا يخضعون للخدمة المدنية، تتمتع بصلاحيات واسعة لتنفيذ وظائف تشغيلية محددة، تدار من خلال مجلس إدارة يرأسه مسؤول كبير في الدولة، ويتشكل مجلس إدارتها من عدد من مسؤولي الأجهزة الحكومية ذات العلاقة، ومن ممثلين عن قطاع الأعمال. ومن الواضح أن هذه الهيكلية لم تكن تنطبق مطلقاً على المجلس الاقتصادي الأعلى في المملكة، الذي كان بمنزلة لجنة تحضيرية لمجلس الوزراء، بأمانة عامة يعمل بها عدد محدود من الموظفين، ولا يتمتع بأي استقلالية، ولا يقوم بأي مهام تخطيطية، ويعتمد تشكيله بشكل كامل تقريباً على مسؤولي الأجهزة التنفيذية المعنية بالشأن الاقتصادي، وتعقد اجتماعاته على فترات متباعدة.
وبالتالي، فوجود المجلس الاقتصادي الأعلى لم يسهم بأي شكل مقبول في إعادة هيكلة منظومة التخطيط الاقتصادي في المملكة، ولم يحقق دمجاً لأنشطة التخطيط الاقتصادي في جهاز واحد بصلاحيات واسعة ومستقل عن الجهاز التنفيذي للدولة؛ ليتولى صياغة ومتابعة تنفيذ كامل عملية التخطيط الاقتصادي في المملكة؛ ما حدّ كثيراً من أهمية الدور الذي لعبه خلال فترة وجوده، وبقيت عملية التخطيط الاقتصادي في المملكة تعاني من غياب الشمولية، وغير قادرة على رفع كفاءة استخدام مواردنا وزيادة قدرتنا على التعامل مع معضلاتنا الاقتصادية التي لا تقع بالضرورة في نطاق عمل جهاز حكومي بعينه، وأصبحنا نعاني من المبادرات الارتجالية غير المدروسة التي تطلقها الأجهزة التنفيذية المختلفة، والتي تفشل في أحيان كثيرة في تحقيق المرجو منها.
من ثم، وحتى يتم تفعيل مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الذي تم تشكيله أخيراً، فإن هناك ضرورة وحاجة ملحة إلى هيكلية مختلفة من خلال إنشاء جهاز مستقل عن الجهاز التنفيذي للدولة، يناط به مهمة التخطيط الاقتصادي، يكون مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية هو مجلس إدارته، ويتولى هذا الجهاز وضع الخطط الاستراتيجية وفق منظور شمولي، ويكون مسؤولاً بشكل تام عن مراقبة ومتابعة أداء الأجهزة التنفيذية؛ ما يضمن التزامها الكامل بتنفيذ ما وُضع من خطط وفق برامج زمنية صارمة، لا يحاد عنها تحت أي ظرف أو لأي سبب كان.