د. عبدالواحد الحميد
يترك رحيل الدكتور راشد المبارك فراغاً كبيراً في المشهد الثقافي وألماً عميقاً في قلوب مريديه وعارفي فضله. وبرحيله تفقد مدينة الرياض، بشكل خاص، رجلاً نذر حياته وماله وكل إمكاناته لخدمة الثقافة والفكر في هذه المدينة حينما جعل ندوته الأحدية في منزله بالرياض محجاً للمثقفين والأدباء والعلماء وكل من يؤمن بقيمة وأهمية الحوار وتبادل الرأي.
كانت الأحدية ساحة باذخة البهاء تعج بالحوار المتنوع المفتوح، وكان راشد المبارك هو «دينمو» الأحدية بما كان يملكه من ثقافة غزيرة في شتى العلوم والفنون والمعارف، وكانت ثقافتُه الموسوعية الهائلة وأفقه الواسع وإدراكُه العميق للجوانب المتعددة للحقائق قد صنعت منه رباناً ماهراً في إدارة حوارات الأحدية التي ضمت كل الأطياف والرؤى والتوجهات الفكرية.
لقد كانت الفيزياء والكيمياء والعلوم هي التخصص الأكاديمي للدكتور راشد المبارك، وقد وضع فيها بعض الكتب والمحاضرات، لكن ساحته الأوسع كانت الفكر والفلسفة والأدب والشعر.
وكانت تربطه علاقات واسعة مع الأدباء والمفكرين العرب ورجالات السياسة وصُنَّاع القرار في المملكة وفي العديد من الأقطار العربية والإسلامية.
كان من حسن حظي أن جمعتني فيه لسنواتٍ عديدة إحدى اللجان الاستشارية التي كانت تجتمع أسبوعياً، وكانت هي المدخل لمعرفتي بهذا الرجل البهي المدهش في علمه وثقافته وإتقانه للحوار وقوة حجته وطريقته المميزة في عرض أفكاره وإثرائها بالشواهد والأدلة من الحقائق العلمية ومأثورات القول وما كان يحفظه من النصوص الدينية والأدبية وقديم الشعر وحديثه.
لقد بدت لي بعضُ آراء الدكتور راشد المبارك، حينها، صادمة في جرأتها وفرادتها وأصالتها، وشدتني إلى الإنصات باهتمام إلى ما كان يطرحه. وكانت آراؤه عن الشاعر العظيم أبي الطيب المتنبي، على سبيل المثال، تدهشني وتفتح عينيَّ على جوانب ما سمعتها من أحدٍ قبله. كان المبارك يبدو في مواقف كثيرة كما لو كان يسبح ضد التيار لكنه كان يحترم آراء الغير ويؤمن بأهمية الحوار ليس فقط مع الآخر بل مع الذات أيضا، وكان يقول:» من افدح ماعانته هذه الأمّة على امتداد تاريخها أن أفرادها وجماعاتها لم يعرفوا الحوار مع الذات لمراجعة ما عرفوا وألفوا من مذاهب وآراء وأفكار وما تنطوي عليه من خطأ وصواب».
في كتابه التنويري الرائع «فلسفة الكراهية: دعوة إلى المحبة» قدَّم المبارك تشخيصاً عميقاً للأمراض التي تعاني منها المجتمعات، وبخاصة مجتمعاتنا الإسلامية، وكان ذلك قبل أن يستفحل البلاء الذي نعاني منه اليوم، وقدَّم رؤى للنهوض والخلاص من المحنة التي تمر بها تلك المجتمعات. ولازلت أؤمن أن هذا الكتاب من أهم الكتب التي تصدَّت مبكراً وبشفافية كبيرة للمشكلات العميقة التي نعاني منها في عالمنا العربي والإسلامي.
لقد كان راشد المبارك رجلاً تنويرياً في كل كتاباته وحواراته وعطاءاته، وكان متعدد المواهب والملكات.
أما على الصعيد الإنساني، فقد كان المبارك يمتلك من صفات المروءة والكرم والشهامة والصفاء الإنساني ما جعله محبوباً من الجميع صغيراً وكبيراً ويشهد بذلك تنوع علاقاته وامتداداتها في الرياض وخارجها وداخل المملكة وعلى امتداد العديد من الأقطار العربية؛ فما أشد خسارتنا بفقد هذا العالم المفكر الأديب الذي لا أظنه قد نال ما يستحقه ويليق به من التكريم حيَّاً فما أحرانا أن نكرمه وقد رحل من عالم الفناء إلى عالم الخلود.
رحم الله أبا بسام، الدكتور راشد بن عبدالعزيز المبارك وجزاه عنا وعن أمته خير الجزاء.