دون هوية لا أظنه منطقيًا فرز الأفكار حسب توجهاتها وتصنيفها بعناوين مختلفة، لأنها في حقيقة الأمر دون هوية أو خارجة عن الهوية، فعلى أي أساس يجري التصنيف إذن؟ لا أظن أن هناك اتفاقًا على جواب واحد فلكل رأيه وهواه وبالتالي لا استغرب حين يتصادم أصحاب النظريات الفكرية حتى فيما بين التصنيف الواحد باعتبار ألا قاعدة حقيقية لها.
حين ظهرت الفلسفة والمنطق في الحضارة اليونانية كانت في جلها تبحث عن تحقيق السعادة للإنسان، وفي حين جاءت الأديان السماوية بما يمكن أن نسميه قواعد الحياة الآمنة والمتطورة مع ربط المحسوس بغير المحسوس والدنيا بالآخرة والحياة بما بعد الموت لم يكن ذلك كافيًا لأصحاب الرأي والفكر والفلسفة والمنطق في التسليم والبناء عليه، بل انطلق العقل البشري ليبحث عما وراء ذلك من خلال ما تم فهمه كأرضية لبناء فكر ورؤية للأشياء، ولما كانت الديانة اليهودية هي أولى الديانات وكان بنو إسرائيل هم أكثر الناس حرصًا على الحياة والتميز وأقلهم خشية ورهبة من الضلال فقد ضلوا وأضلوا، ثم جاءت الديانة المسيحية على بنو إسرائيل أنفسهم مرة أخرى لتفصل بين اتباع عيسى عليه الصلاة والسلام وحواريه وبين أولئك المتمترسين في ضلالهم، إلى أن جاءت الديانة الإسلامية على أمة العرب لتكون عامة للعالمين جميعهم، ليظهر في العهد العباسي بشكل واضح مفكرون وفلاسفة ومناطقه ومتكلمون اجهضتهم القوة الدينية لتظهر النهضة الفكرية في أوروبا مخاصمة الدين والسلطة إلى أن استطاعت الثورة الفرنسية من تحقيق أولى الجمهوريات الديمقراطية العلمانية، هذه نقاط مختصرة سريعة لحركة تاريخ طويل امتد ما قبل الميلاد إلى ما قبل ثلاثة قرون تقريبًا، أما اليوم ورهن الحاضر فإننا بتنا نرى استيراد للتصانيف من أوروبا دون أن نرى أسسًا حقيقية بنيت عليها، بل لا نرى إلا تصادمًا مع الهوية فهي ليست ثورة فكرية علمية كما ظهرت في أوروبا في القرن الثامن عشر وإنما وكما أراها ثورة تصنيفية نخبوية، هي في جل اتجاهاتها رغم تناقضاتها تتجه في اتجاه السلطة والقوة لتحتمي بها، وإن سألت في ذات نفسك ترى ضد من؟ فالأحرى أن الجواب هو ضد بعضها البعض، وكأنما أطفال تحت رعاية والد قوي ثري.
إننا لو محصنا ودققنا آراء وكتابات الكثير من المتصنفين تحت عناوين فكرية في واقعنا العربي وبالأخص السعودي فسنجد العجب من التناقضات المتضادة في الاتجاه، وهو ما يكفي لأن يستحي منه العاقل لكننا نجد الإصرار من بعض هذه الفئات النخبوية إعلاميًا على الأقل في ذات الاتجاه وكأنما يعيشون في واقع هلامي داخل واقع مرتبك ومهتز في كل أبعاده، إنه فعلاً وصف لحالة حقيقية لكنها أشبه بالخيال وغير متسقة مع منطق وإن كانت بفهم آخر طبيعية، وما يزيد من تشوش الصورة أن القوة تدعم هذا الاتجاه من خلال وسائل الإعلام والبروز في المنابر والصحف والفضائيات لينظروا في منطق وفلسفة لا تصح ولا تقبل بتناقض وتضاد في المسار أو الاتجاه المعنون بنقيضه وضده، كيف تقف مع الشعوب في حقها في العيش بحرية وتساوٍ وفي نفس الوقت تقف مع الطاغية المستبد؟ لا يوجد أي مجال لتركيب هذين النقيضين في علبة واحدة، ومع هذا نراه ويتكرر ويزيد صاحبه لمعانًا وبروزًا وتميزًا، أنت أمام هذه الصورة لا تملك إلا السخرية ولكن من من؟
إن واقعنا الجيوسياسي في عموم الوطن العربي وإن باختلاف بين قطر وآخر هو في الحقيقة مدقع في الفقر ليس من ناحية الوعي ولكن من ناحية ما بعد الوعي، فالمعلومة اليوم أصبحت ميسرة سهلة وفي متناول الجميع لكن ماذا بعد العلم والإدراك؟ وفي هذا الفراغ أو الفاصل يتوسع النخبويون والفئويون في اعتلاء المسرح مع انشغال السلطة والقوة في ترميم أرضيتها وقواعدها لتأمين نفسها، في حين يبقى السواد الشعبي أو المجتمعي كالقطيع كل جزء منه في اتجاه وصوب رغم وحدة المكان والأمان والمصير والمستقبل، وكأننا بصورة عامة نعيش في هزة تاريخية لا تهدأ ولكن تشتد وترتخي قليلاً.
أكاد أشك أن النظم العربية الحاكمة تخيلت مثل هذه الصورة أو اهتمت بها لو لاحت لها في مرحلة ما، بالتأكيد ما جرى في تونس، ثم مصر، ثم إلى آخره مما صار يعرف بالربيع العربي هو حالة طبيعية يمكن أن تكون متوقعة لو رسمت مثل هذه الصورة وجرى تأملها، لكن ما أدهى من ذلك أن الصورة ازدادت تعقيدًا وتشوهًا بأكثر مما يمكن تخيله، فقد انتقل الرسم من مظاهرات ومطالبات جماعية ثورية إلى جماعات مسلحة بل وصل الأمر إلى أن تعلن دول لا تعترف أصلاً بما يسمى حدودًا سياسية، وإذا كانت الصورة الأولى تضخمت إلى هذا الحد فيا ترى ما الرسم المتوقع بعد عشر سنوات فقط لذات الصورة؟ التراكم أمر طبيعي ومعالجة الأزمات شيء ومعاندة حركة التاريخ والعصور شيء آخر، إننا دون العودة بشكل جدي للهوية الحقيقية الجامعة سنبقى في حالة تراكم وتضخم مهما استدعينا أشد وأمضى أسلحة المواجهة، القضية ليست مواجهة بل فقدان هوية.