القاهرة - مكتب الجزيرة - طارق محيي - ياسين عبد العليم:
حين تتأمل صفحة النيل الخالدة من أي بقعة في القاهرة لن تخطئ عيناك ذلك الصرح المعماري الفريد بإطلالته الساحرة على النيل الذي يبدو كلؤلؤة في قلب القاهرة، إنه مبنى سفارة خادم الحرمين الشريفين بمصر الذي يجسد علاقة المملكة بمصر والتي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ وتمثل نموذجاً مثالياً للعلاقات بين بلدين شقيقين تقوم على أواصر الدين والعروبة والتاريخ وتستند على الاحترام المتبادل وخدمة المصالح المشتركة وخدمة القضايا العربية والإسلامية والأمن والسلم الدوليين.
تاريخ العلاقات السعودية المصرية
تمتد جذور العلاقات السعودية المصرية لسنوات طويلة حينما أكد الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، طيب الله ثراه، على أهميتها الإستراتيجية بمقولته الشهيرة: «لا غنى للعرب عن مصر ولا غنى لمصر عن العرب»، وترجم، رحمه الله، ذلك بحرصه على إقامة علاقات وطيدة مع مصر منذ مطلع القرن العشرين مؤكداً على ذلك من خلال زيارته لمصر وهي الزيارة الوحيدة التي قام بها خارج الجزيرة العربية وقد كان لها أثركبير في تطور العلاقات بين البلدين.
وكان رأي المغفور له الملك عبد العزيز أن خط الدفاع الأول في تاريخ العروبة هو خط مشترك بين السعودية ومصر، وهو ما ترجم في توقيع معاهدة الصداقة بين البلدين عام 1936م، وكان الملك عبد العزيز- رحمه الله- أول ملك عربي زار مصر عقب ثورة يوليو 1952.
ومواقف المملكة في مساندة وتأييد مصر وشعبها لا تنسى أثناء العدوان الثلاثي على مصر 1956، وفي حرب أكتوبر 1973.
أول مقر للسفارة بالقاهرة
احتضنت القاهرة أول مفوضية للمملكة خارج أراضيها عام 1936م، وكان أول مقر للمفوضية في شارع محمد سعيد المتفرع من شارع القصر العيني، وفي عام 1947م انتقلت المفوضية لمبنى أكبر عبارة عن فيلا مكونة من عدة أدوار بشارع الجيزة الرئيسي ثم تحولت المفوضية إلى سفارة في أوائل الخمسينيات، وفي عام 1966 انتقلت السفارة إلى منطقة الزمالك حتى عادت مرة ثانية إلى الجيزة عام 1978م في مبنى آخر، إلى أن انتقلت عام 2013 م إلى مبناها الجديد على ضفاف النيل بمحافظة الجيزة على نفس الأرض التي احتضنت السفارة عام 1947م.
لماذا هذا الصرح العملاق
كان لوزارة الخارجية السعودية رغبة أكيدة بأن يكون لها سفارة بحجم العلاقة الإستراتيجية المتميزة بالشقيقة مصر، وانطلاقا من ذلك قررت حكومة المملكة العربية السعودية إنشاء سفارة على أرض الكنانة تعكس حجم العلاقات التاريخية بين البلدين، ليكون شاهداً عبر الزمن على عمق ومتانة العلاقات بين البلدين الشقيقين على كافة الأصعدة،
وافتتح صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية مقر السفارة يوم 8 سبتمبر 2014 م بحضور السفير سامح شكري وزير الخارجية المصري وعميد السلك الدبلوماسي العربي السفير أحمد بن عبد العزيز قطان سفير خادم الحرمين الشريفين بمصر، ووزراء الخارجية العرب وكبار المسئولين في الحكومة المصرية.
مبنى يجسد العلاقة التاريخية
وفي تصريحات خاصة لـ»الجزيرة» أكد سفير خادم الحرمين الشريفين لدى مصر ومندوب المملكة العربية السعودية الدائم لدى جامعة الدول العربية عميد السفراء العرب، السفير أحمد بن عبد العزيز قطان، أن المقر الجديد لسفارة خادم الحرمين الشريفين لدى جمهورية مصر العربية يعكس حجم ودفء العلاقات السعودية المصرية، وحرصت وزارة الخارجية أن تعكس السفارة حجم التعامل الكبير مع مصر على كافة المستويات، من حيث التعامل التجاري أو العمالة والحج والعمرة، لتلبي كل الطلبات سواء للسعوديين داخل مصر أو للمصريين المتجهين للمملكة، ولذا، أقيمت مسابقة عالمية شارك فيها مكاتب وخبرات وشركات عالمية ومصرية وسعودية، واختير التصميم الحالي، للمصمم السعودي، الدكتور زياد زيدان.
وأضاف السفير «قطان» أن المقر الجديد يُعَد من أجمل سفارات خادم الحرمين الشريفين في الخارج، نظراً لروعة تصميمه وإطلالته على نهر النيل، وتابع: أن المبنى تبلغ مساحته حوالي 45 ألف متر مربع في قلب محافظة الجيزة، واصفاً إياه بأنه «صرح معماري يجسد علاقة المملكة بمصر، ويمنح خدماته بسهولة منظمة، ويضمن الراحة للدبلوماسيين والعاملين والمواطنين، من خلال تجهيزه بأحدث تقنيات العصر، ويشعر المترددون عليه وخاصة السعوديين بالفخر والاعتزاز بتلك القلعة الحضارية العصرية الحديثة.
وأشار «قطان»، إلى أن الوزارة بصدد تشييد ناد دبلوماسي جديد أمام مقر السفارة، سيتم افتتاحه العام القادم إن شاء الله، ليخدم الدبلوماسيين وعوائلهم، كما سيتم ترميم المقر السابق للقنصلية في منطقة جاردن سيتي، ليكون ملتقى لأهل الفكر والثقافة.
طراز معماري فريد
جرت الأعراف الدولية عادة أن تتكون مباني الهيئات الدبلوماسية من فيلا مكون من طابق أو أكثر لكن المصمم السعودي د. زياد زيدان، خرج عن المألوف باختيار نموذج لبرج متعدد الطوابق كشكل غير معهود في تصميم هذا النوع من المنشآت فتم لأول مرة تصميم مبنى دبلوماسي بهذا الحجم ليجمع كافة المكاتب السعودية في مبنى واحد.
ويقف مبنى سفارة المملكة العربية السعودية بتصميمه المعماري الفريد لهيئة دبلوماسية، في قلب القاهرة ليبدو كاللؤلؤة خاصة عندما تعكس الشمس صورته الفضية على مياه النيل، ويعبر تصميم المبنى الخارجي بخطوطه الممزوجة بطابع شرقي وإسلامي، فالواجهات الزجاجية لجميع أدوار المبنى مغطاة بحجاب يتألف من مجموعة من تشكيلات النجمة الإسلامية المصنوعة من مادة «الاستنلس» بلونها الفضي.
أقيم المبنى الذي يقع على ضفاف النيل على مساحة بلغت 45 ألف متر مربع ويضم برجين: الإداري ويتكون من 20 طابقاً وبه كافة البعثة الدبلوماسية للمملكة في مصر، والسكني ويتكون من 15 طابقاً ويضم سكن البعثة.
تحمل البوابة الضخمة للسفارة المشابهة لبوابة مبنى وزارة الخارجية بالرياض الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى. وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، كنبراس يؤكد جذور رؤية وتوجهات السياسة الخارجية للمملكة.
ويبدو مدخل السفارة ليلاً كقطعة من الفضاء بنجومه المتلألئة، فالثريا الضخمة المتدلية من منتصف السقف رغم بساطة تصميمها يبرز تأثيرها الكبير فتظهر عندما تضاء كأشبه ما يكون بطبق طائر منيركما تنعكس الأضواء الجانبية التي راعى التصميم أن تكون غير مباشرة فيظهر الضوء من خلف الجدران المكسوة بالزجاج والمحفورة عليه عدة أشكال للنجوم المتناثرة ويزيد من تأثير الإضاءة وجود بعض قطع المرايا التي تغطي أجزاء مختلفة الأطوال من الأعمدة التي تحمل السقف.
يتميز مبنى السفارة بتنوع الخدمات المستخدمة في البناء والتصميم وتنوع مصادرها أيضاً، فقد استخدمت مواد محلية مصرية للبناء وزجاج وأخشاب إيطالية وتم استيراد الرخام الأزرق المميز من بوليفيا الذي يغطي ليس فقط أرضية المدخل الرئيسي بل أرضيات المصاعد ومداخل جميع الأدوار، كما تم استيراد مواد أخرى من عدة دول مثل الهند وجنوب أفريقيا لتأتي البصمة الأخيرة من المملكة العربية السعودية بثلاثة آلاف متر مربع من الجرانيت السعودي الفاخر لتتزين بها واجهة المبنى.
لمسات من التراث
وراعى التصميم الداخلي للمبنى المحافظة على التراث الشرقي والوطني بلمسات مميزة تتميز في تناثر بعض قطع الأثاث العربية من الخشب المطعم بالعديد من اللوحات الفنية التي رسمها فنانون سعوديون من الجنسين كنوع من الفخر بإنتاجهم وتكريماً لهم، كما لا تخلو جدران السفارة من الداخل في كل الطوابق من عدة صور تسجل أهم لقاءات القيادات السعودية المصرية المتعاقبة في مناسبات مختلفة تعبر عن عمق العلاقات بين البلدين الشقيقين.
وتم مراعاة اختيار تصميم نموذجي حديث مريح وعملي يتناسب مع باقي المكان ويوفر البيئة الملائمة للعمل بكل سهولة وانسيابية من حيث مراعاة المساحات والإضاءة واستخدام الخامات الخفيفة كالخشب المضغوط أو الاستنلس والجلد أحياناً كما تم تزويده بجميع التقنيات الحديثة وأدوات التواصل الداخلي.
تحيط النباتات بأنواعها المختلفة بمبنى السفارة من جميع الجوانب فيقف النخل الملوكي حارساً للمبنى تتخلله أنواع من الأزهار والنباتات تم اختيارها لتبهج الناظرين بألوانها المتعددة وتغلف المكان برائحتها الذكية، ويبدو مكتب رئيس البعثة الدبلوماسية للمملكة كمساحة مفتوحة ممتدة على سطح مياه النيل التي تظهر من خلال الواجهة الزجاجية والأشكال الزخرفية المفرغة التي تغطي واجهة المبنى، وتضم السفارة عدة صالونات مصممة بأثاث حديث يتداخل فيه اللونان العاجي واللبني بدرجات مختلفة في لمسة جمالية تصنعها الزهور الطبيعية وذلك لاستقبال ضيوف السفارة من المسئولين والمواطنين السعوديين والمصريين وغيرهم.
مواصفات المبنى الذكي
ويحقق المبنى جميع مواصفات المبنى الذكي من حيث إنه صديق للبيئة، حيث يعتمد بشكل كبير على الإضاءة الطبيعية، كما أنه مزود بأحدث التقنيات الحساسة التي تستشعر وجود أفراد في المكان من عدمه لتتحكم تلقائيا في الإضاءة وأجهزة تبريد الهواء فيساعد ذلك على ترشيد استخدام الطاقة، كما تم تجهيز المبنى بأحدث التقنيات الأمنية وأساليب المراقبة والحراسة وتمتد المنظومة الأمنية للمبنى لتشمل جميع الأدوار عبركاميرات مراقبة وأجهزة إنذار وأجهزة تعريف شخصية لا تسمح بدخول أي مكان إلا لمن له الحق ويملك تصريحاً خاصاً.
القسم القنصلي
يضم هذا الجزء من المبنى جميع المكاتب المسئولة عن الأعمال القنصلية وشئون المواطنين السعوديين بمصر، في تصميم يتماشى مع الروح العامة للمبنى ليجمع بين الراحة والبيئة النموذجية الحديثة للعمل، وأكثر ما يميز تصميم هذا الجزء من المبنى هو وجود عدد من النخيل الاصطناعي ليعكس البيئة السعودية.
كما يضم القسم القنصلي دوراً علوياً لمكاتب العمل ودورا آخر أسفله مخصص لخدمات المواطنين يتكون من مساحة كبيرة للانتظار يغلب عليها اللون العاجي في الحوائط والأرضيات المكسوة بالرخام.
قاعات الاحتفالات والاجتماعات والمؤتمرات
دخول قاعة الاحتفالات كأنه عبور إلى عالم آخر، فالقاعة التي تتسع لستمائة شخص تدمج بين الحداثة والتصميم العربي الذي اهتم بالتفاصيل بدءًا من السقف المفرغ على شكل طبقات ويتدلى منه النجف الكريستال على شكل نجمة إسلامية متعددة الأضلع تتداخل أضواؤها مع الأضواء الداخلية المنبعثة من الأعمدة المصنوعة من الزجاج الأخضر الشفاف.
يضم دور مكتب رئيس البعثة قاعة للاجتماعات تضم اثنين وعشرين مقعداً بنفس عدد الدول أعضاء جامعة الدول العربية ويميز القاعة الضوء الشديد الذي يكسوها من السقف الذي لا يفصله عن السماء سوى مجموعة من ألواح الزجاج المصممة بأشكال هندسية والتي تسمح بمرور إضاءة طبيعية للمكان فيظهر جمال الأثاث المكون من مقاعد وثيرة من الجلد الأبيض حول منضدة من الخشب.
كما أن قاعة للمؤتمرات الصحفية تتسع لستين فرداً مزودة بأحدث التقنيات التكنولوجية ومنصة للمتحدثين ومقاعد عملية مريحة يسيطر اللون العاجي على أثاث وجدران القاعة كذلك الحال في المكتبة الملحقة بها، والتي تحتوي على مراجع وكتب تتناول معلومات عن المملكة، وبذلك يستفيد الباحثون في الشأن السعودي سواء من المواطنين السعوديين أو غيرهم من الصحفيين أو الباحثين في هذا المجال من المواطنين المصريين.
ويتماشى تصميم المكتبة مع تصميم قاعة المؤتمرات التي تضم صالونا صغيرا مكونا من أثاث مكسو بالجلد كما راعى التصميم طبيعة المكان حيث تم تزويد المكتبة بإضاءة غير مباشرة بأحدث الأجهزة.
ويحتوى المبنى على مسجدين للرجال والنساء يتمتعان بتصميم في غاية البساطة يدعم الشعور بالروحانية، فالجدران مطلية باللون الأبيض ثلثها الأسفل مكسو بالرخام العاجي تتلألأ عليه أضواء الثريا التي تتدلى من السقف وتتمتع بتصميم عربي قديم غني بالتفاصيل.
ويوجد بالمبنى مطعم يساعد على دعم مناخ الراحة المرجوة للموظفين، وجاء تصميمه بشكل عملي يحمل الطابع الشرقي متمثلاً في «موتيفة» النجمة الإسلامية التي تزين النجف والقطاعات الزجاجية والخشبية للمكان مع أثاث على طراز حديث يتمتع بإطلالة على الشرفة العلوية للمبنى الذي يطل مباشرة على النيل.
البرج السكني
انطلاقاً من أهمية توفير الأجواء المناسبة لأعضاء البعثة الدبلوماسية، تم إلحاق مبنى سكني بمبنى السفارة ومتصل بها عبر مبنى القنصلية، حيث تم تصميم المبنى بنفس الطراز المعماري للمبنى الإداري، وجاء التصميم الداخلي للمبنى مراعياً الهدف الأساسي من وجوده وهو تسهيل إقامة المقيمين فيه لأقصى درجة توفر سبل الاطمئنان والراحة للموظفين والأجواء المناسبة لأداء عملهم بتفان.
ويتكون البرج السكني من خمسة عشر طابقاً به تسع عشرة وحدة سكنية، تضم سكن المندوب الدائم لدى جامعة الدول العربية والرجل الثاني بالسفارة ورؤساء المكاتب التابعة لها ورؤساء الأقسام بالسفارة.
جميع الشقق السكنية مؤثثة بالكامل بتصميم حديث يعكس روح العصر وبألوان هادئة تتمازج فيها درجات اللون العاجي لتبعث الهدوء والطمأنينة، ويحتوي البرج السكني على وسائل للرفاهية والراحة كحمام السباحة وصالة الرياضة وغيرها من وسائل الاسترخاء ليستطيع أعضاء الهيئة الدبلوماسية وعوائلهم من الاستمتاع بأوقاتهم في خصوصية.
اقتراح
أخيرًا فإننا نتقدم باقتراح نأمل أن يؤخذ بعين الاعتبار من المسئولين بسفارة خادم الحرمين الشريفين بالقاهرة، وهو أن يتم وضع اسم وشعار المملكة على أعلى المبنى المطل على النيل بحيث يرى بوضوح كل من يتأمل صفحة النيل أو يمر بجواره مبحراً، اسم المملكة وشعارها وعلمها سواء ليلًا أو نهاراً، وهو اقتراح نرى أنه يزيد إشراقة وإطلالة المبنى المميزة على النيل.