د. فوزية البكر
لعل هذا الموضوع على وجه التحديد قد نال الكثير من الاهتمام وقدمت فيه مئات الأوراق والدراسات وتم نقاشه في الصحف ووسائل الإعلام بشكل مكثف. هذا طبعا لا يعني أن هذه الدراسات قد تمت بشكل علمي دقيق أظهر لنا نتائج فعلية، فمثلا تحدث الباحثون عن تأثير العاملة المنزلية على لغة الطفل ولكن لم يقم أحد أبداً بدراسة تتبعية لسنوات للغة الأطفال
وعلاقتها بوجود العاملة المنزلية مفصولا عن غيره من العوامل التي قد تؤثر على النمو اللغوي مثل مشاهدة التلفزيون أو تأثير الأقران في المدرسة أو غير ذلك. لكن ما جعلني أفكر في الموضوع القديم الجديد فعلا هو تجربتي (القصيرة للأسف: فصل دراسي واحد) كأستاذ زائر في الولايات المتحدة حيث لا توجد لا شغالة ولا سائق وتبدو الحياة بسيطة وسهلة أكثر بكثير مما توقعت.
طبعا لا يوجد أطفال صغار،كما أن حجم المنزل أصغر بكثير من السعودية إضافة إلى عدم وجود فعاليات اجتماعية لعدم وجود الأهل لكن الشعور رائع.. إنه شعور بالحرية والراحة من عدم وجود أشخاص آخرين يحومون حولك أربع وعشرين ساعة، شعور بعدم القلق من تغير مزاج السائق أو زعل الشغالة اليوم (وعندنا عزيمة) أو هروبها أو رفضها للعمل إلخ من التحديات التي تواجه العلاقات القريبة بهذا الشكل.
ليس الآمركذلك فقط بل تبدو أهمية العمل في المنزل والعناية به في أنها تشكل نوعا من العلاج وإشغال النفس ببرنامج يومي يبعد عقلك عن التفكير في كل شيء صغيراً أو كبيراً تماما، مثل أن تعمل في حديقتك أو تقوم بإصلاح أدراج خربانة في دولاب ملابسك، كما أنه يحقق متعة مثل الطبخ للبعض أو التنظيف أو الترتيب وهو إلى ذلك يضع مسئوليات محددة على كل فرد في الأسرة مما يساعده علي الإحساس بأنه جزء من هذه المنظومة الأسرية وأنها تعتمد عليه كما هو أسلوب تدريب على إدارة المنزل مستقبلا للبنين والبنات اوهي مؤسسة أساسية سيمر بها كل إنسان في فترة ما من حياته.
الذي حدث لدينا هو أن طبيعة البيوت غير الوظيفية (بمعنى توزيع المساحات بشكل لا يخدم الغرض منها أو تصميم المطبخ بشكل غير عملي مقارنة بما لمسته هنا إذ إن كل شيء من أفياش للكهرباء أو أدراج أو أدوات مصممة بشكل يجعل العمل سهلاً وممتعاً داخل المطبخ) يضع أعباء إضافية على عاتق ربة الأسرة.
أيضا ضغط الالتزامات الاجتماعية التي أجزم أنها تحتل أكثر من 60% من وقت معظم الناس فيضيع الوقت في عيادة فلان وعزيمة الآخر وهذه أنجبت طفلا والزيارة في المستشفى خلال أيام محددة فلابد منها والأخرى تزوجت ولا بد لها من حفلة والأخرى خطبت ولابد من البحث عن هدية مناسبة لها، وعماتي تجمعن اليوم في الاستراحة ولازم أروح معهن إلخ من الالتزامات التي جعلت هذه المناسبات الاجتماعية أكثر أهمية من الأمور الأساسية في حياة الإنسان وهي أهل بيته وعمله.
إضافة طبعا إلى الراحة التي وفرتها هذه العاملة ومن ثم فنومة الظهر لربة المنزل أصبحت أساسية وكثرة الغرف أو الحمامات لا يشكل قلقا طالما أن ربة المنزل لن تقوم بتنظيفها يوميا ودعوة الأهل على غداء أو عشاء لا يشكل قرارا يحب التفكير فيه بدقة طالما أن السائق سيقوم بجلب ما نحتاجه، وبهذا فلن يتعطل سيد المنزل وطالما أن السيدة ستوجه أوامرها للشغالة بالتنظيف ثم بالقيام بكافة الاستعدادات من إعداد عدة القهوة وتقطيع للأغراض استعدادا للطبخ إضافة إلى أن الأطفال لا يشكلون مشكلة أيضا فوجود الشغالة التي ستضعهم مساء في مناماتهم يجعل كل شيء سهلا لكنه يسرق من المنزل ومن العلاقات الأسرية كل معنى وجدت من أجله.
الأسرة تعني أن يكون الأب والأم معا يتشاركان في كل صغيرة وكبيرة في المنزل وهم يدورون حول أفلاكهم الصغيرة وهم أطفالهم الذين يشعرون بمسئولية تجاه أنفسهم وغرفهم وملابس مدرستهم وأحذيتهم وألعابهم، كما أن الأب سيكون مسئولا عن إيصال أطفاله للمدرسة وجلبهم منها، كما هو مسئول عن كل ما يتعلق باحتياجات الأسرة صغيرة وكبيرة (طالما الموضوع الأممي في السعودية وهو قيادة المرأة للسيارة لم يحل بعد) وبهذا سيجد الأب نفسه غارقا تدريجيا في تدريس أبنائه ومتابعة واجباتهم ومتابعة الثلاجة وما نقص فيها والأم بالطبع ستكون بوصلة الأسرة التي تدير كل ذلك.
هذه هي الحياة التي افتقدتها الأسرة السعودية منذ دخل الغرباء في عمقها الأساسي بشكل يومي فاختفى الشعور بالانتماء العملي للأسرة الصغيرة وانتشر الضجر لعدم وجود واجبات محددة، وأصبح الكسل والشعور بالعجز هو الرائد وانتقل السلوك الخاص داخل الأسرة إلى سلوك عام، فما دام أنني لا ألتقط مخلفاتي بنفسي في بيتي وتترك للشغالة فلن أفعل ذلك بالطبع في الأماكن العامة فهناك عمال نظافة، وعليك فقط أن تمشي في إحدى الحدائق العامة في مدينة الرياض مساء الجمعة أو السبت لترى كمية النفايات والمخلفات الهائلة التي يلقي بها المتنزهون على الأرض باعتبار تنظيفها ليس جزءا من منظومتهم الذهنية وهي (واجب عامل النظافة) الذي توظفه البلدية لجمع مخلفاتنا! رغم أن كافة الدول الآن تضع قوانين صارمة على ذلك من أجل جعل النظافة في الأماكن العامة سلوكا وقيمة جمعية لتحقيق أمننا البيئي والاستمتاع بما حولنا وحماية الممتلكات العامة والتعامل معها على أنها أحد المكونات الوطنية التي تجمعنا كمواطنين وكقاطنين على هذه الأرض نعمل على حمايتها وحين لا يعتني الناس ببيئتهم فهذا لا يعني بالضرورة أنهم سيئون ولكن لأنهم لا يملكون معلومات واضحة حول تأثير ما يلقونه في البيئة من مخلفات.
وجود العاملة المنزلية كان طوق نجاة لسيدة المنزل السعودية من حياة معاصرة في ظل منظومة اجتماعية قبلية تقليدية تتطلب واجبات لا حصر لها من استقبال وولائم وأعراس إلخ، لكنها في ذات الوقت سرقت من الأسرة التحامها وشعورها العائلي بالوحدة الصغيرة. السائق بالطبع له آثار مدمرة على اتكالية رب الأسرة والذكور من العائلة، لكننا لا نستطيع أن نتحدث في ذلك لعدم وجود بدائل حاليا فإذا كانت المرأة لا تستطيع القيادة كما لا توجد شبكة مواصلات عامة فسيبقى السائق ما بقينا على عنادنا الطفولي الغريب في قضية قيادة المرأة!