د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** العيشُ في عالمٍ مائجٍ لا يكفيه قاربٌ شراعيٌّ فالغرقُ مساره، والحياةُ في وسطٍ متلونٍ لا ينفعُ معها رداءٌ أبيضُ إذ لن يراه أحد، وحين تحيط بك أحداثٌ مجنونةٌ فإن اعتمار العقلِ يعني متاهةً ذهنيةً تتوالد فيها الاستفهاماتُ وتتعذر الإجابات.
** ليس غيرَ عالمنا من تحكم بعضَ أقطاره عصاباتٌ وتئدُ طموحاتِه نزواتٌ وتنقلب فيه المبادئُ شعاراتٍ استهلاكيةً تُبدلُ وتُعدلُ وَفقًا للأهواءِ والأنواء ثم تجدُ من يدافعُ عنها دون أن يعنيَه غدُ أمته القاتمُ ويومُها الكئيب.
** يحتدمُ الجدلُ لا من أجل التفتيشِ في مساربِ النفقِ بحثًا عن خيطِ ضوءٍ قد يقودُ - ولو بعد حين - إلى جدائل الشمس بل حول من ينصُرُ أدلجتَه؛ فالعدوُّ هم الأهلُ والقريبُ هو الغريب، ولا نعدمُ وسط هذا التصادمَ من يرفع داخل وطنه راياتٍ «ميليشويةً» ذاتَ انتماءاتٍ خارجيةٍ، ومن يصنعُ شبحًا فيحسبُه شخصًا ويحارب طواحين الهواء، ومن تختلطُ في حساباته الفوارقُ بين اللاهوتيِّ والناسوتيِّ، ومن يصطادُهم دعيٌّ ويُقصَى لديهم ممتلئٌ حقيقيٌّ، ومن يُصدقُ الكذوبَ ويُكذب الصدوق .
** أسماءٌ وحكاياتٌ تُشيرُ إلى طلاقٍ بائنٍ بين تكويناتٍ عريضةٍ في المجتمع العربيِّ تُثير أسئلةً حول مصير المركب تقودُه الريح وتغيب عن مساره الروحُ القادرةُ على صدِّ العواصفِ وتهدئة العواطف وخلق مناخٍ إنتاجيٍّ فيه غدٌ ووعدٌ تلتفُّ فيه طاقات الشباب نحو البناء لا الهدم وتحتويهم تنظيماتٌ حضاريةٌ لا حزبية.
** ينشأُ الصراعُ في المعتاد بين قوتين تملك واحدةً منهما «السلطة» والأخرى «المعرفة»، وحين تتحدان في اتجاهٍ واحد ونحو أهدافٍ مشتركةٍ يتعقلن العالمُ قليلًا ، وإذ تتكئُ السلطةُ على العصا تتوارى قيمُ المعرفة، وحيث تتهمش المعرفة تتعددُ السلطاتُ وتبدو الدنيا بمنظارٍ بائسٍ لا يعرفُ غيرَ مستعمرٍ ومستكبرٍ وأفَّاقٍ ومنافقٍ وطامحٍ وطامعٍ وظالمٍ وناقم.
** أثار بعض القراء الأفاضل نقاطًا جديرةً تعقيبًا على مقال الخميس قبل الماضي ( مركز العقل) واقترح أحدهم تسميته (مركز الجنون)، وربما شاء الإشارة إلى أنه القاعدة والعقل الاستثناء ، ولا جدل أن رؤية السفاح «النتن» يتقدم الصفوف في باريس بدعوى محاربة الإرهاب وهو زعيم الإرهابيين، وحين يدَّعي فارسيٌّ طائفيٌّ خدمة الإسلام والحرص على وحدة المسلمين وتأريخه كما واقعه مليءٌ بالنواقض ، وعندما تتبادل الفصولُ أدوارها ويصير الذئبُ راعيًا والجديرٌ كسيرًا، وإذ تصير الكلمةُ مزجاةً لا تنضبط بمبدأٍ ولا تتواءمُ مع منطقٍ ويتناقض كلام اليوم عن الأمس والجهرِعن الهمس والأخيرِعن الأول ثم يسودُ قائلوها بما يستعصي على التبرير، وحين يتبعُ المفكرون الساسةَ فيتأدلجون ويتقلبون فبسببِ غياب العقل الحازم الصارمِ الحاكم، أو ربما لطغيان الجنونِ المعولمِ والإقليمي.
** في مثل هذه البيئات يصعبُ التوازنُ النفسيُّ ويزيد التناقضُ القوليُّ والفعليُّ، ونحتفل بالحبِّ بينما نفكر بالحرب ونغرق في المديح بلغة الهجاء ونعتمرُ الدِّينَ ونجترحُ الانفلات.
** الجنونُ نكسٌ وبؤس.