فلا جزع أن فرق الدهر بيننا
فكل أمرئ يوماً به الدهر فاجع
الحياة الدنيا دار ممر لا دار إقامة لجميع الفئات البشرية، فالسعيد من يرحل منها بزاد من التقى ليسهل عليه العبور على متن الصراط المستقيم إلى دار النعيم المقيم:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له
من الله في دار المقام نصيب
وفي الآونة الأخيرة من هذا العام توالت ضربات الحزن على مهجتي لفقد الكثير من زملائي وأحبتي، ففي يوم الاثنين 20-4-1436هـ فجعنا بنبأ وفاة صديقي الحبيب خال أبنائي وبناتي الشيخ الفاضل مشعل ابن الخال عبدالرحمن بن عبدالعزيز المشعل مما كان له بالغ الأثر والأسى في نفسي ونفوس أبنائي وبناتي، فإن فقده وغيابه عن ناظري محزن جداً، فالشيخ أبو محمد صديق وُد لي منذ عهد الطفولة والدراسة الأولى في الكتّاب على الأرض، وعلى المقاعد الطينية بحريملاء، ثم في المساجد بالرياض على أولئك العلماء الأجلاء: سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم، وعلى أخيه فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ ـ جزاهما المولى عنّا وعن جميع الزملاء وافر الأجر والمثوبة ـ كما جمعنا به السكن في أحد البيوت التي خصصها جلالة الملك عبد العزيز لطلبة العلم المغتربين قبل افتتاح المعاهد العلمية عامي 69-1370هـ والواقع أن الشيخ مشعل ـ أبو محمد ـ يتمتع بصفات حميدة وهدوء طبع وسماحة ولين جانب، فهو محبوب لدى الجميع، بارٌ بوالديه واصلٌ لرحمه، باذلٌ معروفه لقرابته وأصدقائه، كما أن من سجاياه إقراض من يقصده من أقارب ومعارف محتسباً الأجر في ذلك. وبعد وفاة والدته الكريمة أخذ شقيقته نورة بمنزله وهي صغيرة فقام بتربيتها ورعايتها، فهو بمنزلة الوالد لها حتى تزوجت، وقد لمستُ المزيد من ذلك عن قرب حينما اقترنت بشقيقته نورة - أم محمد ـ منذ عام 1375هـ - رحمهما الله رحمة واسعة - وكان بارّاً بها وببنات أخته سارة بنات عبد العزيز بن عيسى آل فريان عطوفاً عليهنّ دائم التواصل معهنّ هو وأخواه: الشيخ علي ـ متعه الله بالصحة - والشيخ سليمان ـ تغمده الله بواسع رحمته -، ولا يستغرب عليهما قوة الترابط والتوادد، فهما كالجسد الواحد في تواصلهم وتراحمهم، وقد تربوا في أحضان والدين كريمين مما كان له أطيب الأثر في حب التآلف وقوة الترابط والبذل في أوجه البر والإحسان:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا
على ما كان عودهُ أبوه
وقد حرم من نعمة البصر في سن مبكرة فعاش صابراً محتسباً ولم يعقه فقد البصر عن طلب العلم والتحصيل الدراسي، وقد يرد على من يشفق عليه بهذين البيتين:
إن يأخذ الله من عيني نورهما
فإن قلبي مضيء ما به ضررُ
أرى بقلبي دنيايا وآخرتي
والقلب يدرك ما لا يدرك البصرُ
وإذا قيل له أين قائدك؟ قال هو معي، مُشيراً إلى عصاه متمثلاً بقول أبي العلا المعري:
عصا في يد الأعمى يروم بها الهدى
أبر له من كل خدنٍ وصاحب
وعندما نال الشهادة العالية بكلية الشريعة بالرياض عين مدرساً بالمنطقة الشرقية فترة من الزمن، ثم انتقل إلى مدرسة طلحة بن عُبيد الله الابتدائية بحي أم سليم في الرياض حتى تقاعد، وقد أم المصلين في عدد من المساجد وكان مخلصاً في عمله محبوباً لدى زملائه وأبنائه الطلبة، كما أنه صديق للأطفال يفرحون بمجيئه إلى منزلنا، قائلين من شدة فرحهم: جاء خالنا مشعل.. جاء خالنا مشعل لما يجدونه فيه من تلطف ودغدغة لعواطفهم بمداعبته الخفيفة معهم، مع منحهم بما تيسر من حلوى وبسكويت وغير ذلك مما يؤنسهم، فقد طبعه المولى على سماحة الخلق وطيب المعشر فحديثه لا يمل تلذ له الأسماع مع الصغير والكبير، كما أنه يَنْفُثُ على مريضهم بقراءة فاتحة القرآن الكريم والمعوذتين، وبعض الأدعية المأثورة، فقراءته مؤثرة، وفي الحديث: (أطب مأكلك تكن مُستجاب الدعوة) فهو رجل صالح وتقي مستجاب الدعوة - رحمه الله وغفر له - ومما حزّ في نفوس المعزين لشقيقه الشيخ علي ما رَأوهُ من شدة حزنه على أخيه، وهو مُجْهَش بالبكاء يكفكف دمعات عينيه وهو واقف على قبره ولسان حاله في تلك اللحظات القاسية على قلبه يردد هذا البيت:
أُُخيين كُنا فرق الدهر بيننا
إلى الأمد الأقصى ومن يأمن الدهرا
والعزاء في ذلك أنه خلّف ذرية صالحة بنين وبنات متآلفين ومتحابين تدعوا له وتجدد ذكره الحسن, غفر الله للفقيد الغالي خال أبنائي الشيخ مشعل وأسكنه عالي الجنان وألهم ذويه وأخاه الشيخ علي وأبناءه وبناته وعقيلته أم محمد وجميع أسرة المشعل ومحبيه الصبر والسلوان.
عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف - حريملاء - 27-4-1436هـ