د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
سلسلة إعدامات استعراضية متوحشة تلاها حرق مكتبة الموصل بوثائقها الإسلامية التي لا تقدر بثمن، وتدمير نفائس تاريخية في متحف المدينة تعود لقرون ما قبل الميلاد، وبدايات الحضارة البشرية، أثارت التساؤلات مجدداً حول طبيعة هذا التنظيم الهمجي المدعو «داعش»، حقيقته، ودعمه؟
وهل لذلك علاقة بتراكض قوى إقليمية ودولية لاستثمار الفراغ الذي خلفه تدمير دولة العراق، والحرب الأهلية السورية؟ وفي الوقت ذاته شلت الحروب الداخلية العربية قدرة الدول العربية على التعامل مع هذه التطورات، حيث دمر احتلال الكويت والحرب العراقية الأولى مفاصل التضامن العربي، إذا ما افترضنا وجود مثل هذا التضامن ولو شكلياً وسلمنا بقيمة وجود هيئات عربية مهمشة مثل جامعة الدول العربية، وترديد شعارات ومفاهيم مثل التضامن العربي أو وحدة المصير العربي التي طالما رددتها القمم العربية لخداع الجماهير.
فراغ ودمار ما سمي حروب الخليج أثار مخاوف عودة الاستعمار القديم للمنطقة، ولكن ما ظهر حقيقة هو عودة المد القومي لقوى إقليمية من مرحلة ما «قبل الاستعمار»، وبروز رغبة جامحة لديها لإعادة عجلة التاريخ بحثاً عن إعادة مجدها الإمبراطوري السابق في المنطقة على حساب الجسد العربي المشلول تماماً. وكانت مطية هذا التوسع جيوش على شكل ميلشيات إسلامية تم تجنيدها بتوظيف أسوأ ما في التاريخ الإسلامي من أساطير وثارات وإيديولوجيات، مستغلة الأعداد الهائلة من الشباب العربي العاطل المحبط الذي تسبب تعليمه السيئ في سهولة أدلجة نفسيته المنهزمة ومعنوياته المنكسرة بأوهام خلاص وانتصار أبدي.
أما دول الاستعمار التقليدي فاكتفت بالاستفادة من الوضع بشكل انتهازي بشع لمصالحها الاقتصادية والجيوسياسية، بعيداً عن صداع التدخل المباشر في الرمال المتحركة لصحراء الاقتتال الطائفي الذي حول المنطقة لأكبر سوق سلاح تاريخي، ولأكبر ساحة للعنف المجاني، واستثمرته كمجال لتفريع شحنة العنف العالمي لإخافة شعوبها بالتخلي عن حرياتهم الفردية والاجتماعية التي حصلت عليها بعد قرون من النضال. فدخل العالم مرحلة من عولمة قمع الشعوب بحجة حرب الإرهاب التي لم تستثن بلداً واحدا.
لذا تمت ولادة قيصرية لدولة لقيط تسمى «داعش» تحكم رقعة جغرافية واسعة يمكن تسميتها «بداعشتان»، شعارها توظيف الرعب للقضاء على الحضارة المدنية الحديثة والعودة بالتاريخ لصورة متخيلة مجتزئة عن العصر الإسلامي الأول. وبينما كان الرسول - عليه أفضل الصلاة والسلام - يطلق الأسرى مقابل تعليم بعض صحبه الأميين، واستأجر خلفاؤه المدونين من الثقافات الأخرى في سبيل تمدين الدول الإسلامية، يكفر هذا التنظيم التمدن ويرى الفضيلة في الجهل وهجر التمدن، وكأنما يشكل تمدن البشرية خروجاً عن الملة وتحدياً للإرادة الإلهية. فقلّب كتب التاريخ الإسلامي بحثاً فيها بانتقائية مفرطة عن كل ما يبيح القتل والحرق والتدمير، وأنزل هذه الأساطير منزلة العقائد العسكرية التي لا مجال لنقاش صحتها، وفسر بناء عليها التاريخ الإسلامي بمجمله.
ومن المسلم به تاريخياً أن منطقتنا هي منبع الحضارات الموحدة: يهودية ومسيحية وإسلامية، وقد توالت عليها عشرات الممالك والإمبراطوريات وبقيت شواهدها شاخصة وكأنما هي متحف طبيعي يحسدنا عليه العالم كله، وهي شواهد حضارية فاخرنا العالم بها على أنها مساهمة لنا شاخصة في الحضارة الإِنسانية: بداية الاستقرار والزراعة، اكتشاف الكتابة، ابتكار الأنظمة العدلية، والقدرة على النحت والتصوير الخ.. وتركت التماثيل في كل مكان دونما أن تُمسّ حتى في أحلك عصور الإسلام ظلاماً، ومر على حكم المناطق التي تواجدت فيها هذه الآثار صحابة وخلفاء راشدون، وفجأة وفي القرن الواحد والعشرين في عصر التكنولوجيا والطائرات والصواريخ، وفي عالم رقمي يستخدم نظم عالمية للتواصل الفوري، وفي زمن اكتشاف شفرة الخلية والدماغ يتم تحطيم هذا الإرث العظيم بمطارق بدائية أمام أعين البشرية جمعاء على أنه مخالف للإسلام!!! أليس في ذلك مزايدة على مواقف الصحابة والتابعين؟ ألا يمثل انحطاطاً لثقافة متأسلمي اليوم الذين نصبوا نفسهم بالقتل والعنف والترويع أوصياء على الدين؟ وألا يشكل هذا تحريفاً صارخاً لتعليم الدين الحنيف؟ فالإسلام فتح الأمصار وساهم في أعمارها وتمدينها وإرساء مبادئ العدل والرخاء فيها، ولم يعرف في التاريخ الإسلامي المبكر حالات قتل أو سلب أو حرق أو إرهاب كما نشهد اليوم.
الجنون وانفصام الشخصية الجمعي أخطر بكثير من الفردي فما بالكم إذا ما مكن من أرض ودولة؟ فالمشاركة الوجدانية والإحساس بالتضامن الفكري تؤجج التطرف وتجعل أفراده يتنافسون فيما بينهم أيهم أقدر على التطرف في ممارسة هذا الجنون ببشاعة أكثر صدما. فكيف تطورت ونشأت واستقوت دولة داعشتان رغم ادعاء الجميع محاربتها؟ ومن أين يأتي الدعم اللوجستي والبشري الضخم لهذه الدويلة التي أجمع العالم على محاصرتها، وتحيط بها دول مغلقة لا يمكن أن تمر إبرة عبر حدودها؟ كيف في ظل الهجوم الجنوني على الأضرحة والمزارات تمت المحافظة على مزار سليمان باشا الضخم حتى تم نقله وترحيله بالكامل؟ كيف تم تدمير كل الكنائس المسيحية في الدولة بل وتدمير مساجد الطوائف الأخرى باستثناء كنيس يهودي في بلدة تدعى «تادف» دار حوله نزاع تاريخي سابق بين إسرائيل وسوريا فبقي سليماً وتحت حراسة داعش؟ كيف، ومن قام بتسليم إسرائيل نسخة التوراة القديمة الموجودة في مكتبة الموصل قبل حرق المكتبة بالكامل؟ ما تفسير أن أغلب المقاتلين في داعش من جنسية دولة مجاورة يباع لها النفط بخمسة عشر دولار للبرميل، بينما تبيع داعشتان «لمواطنيها» الخاضعين لسيطرتها البرميل بمئة دولار؟ كيف تحولت «داعشتان» لدولة أقوى من أفغانستان؟ ومن أين يأتيها كل هذا العتاد الجديد والسيارات ذات الموديلات الحديثة؟
الجواب على ما يبدو هو أن دول إمبراطوريات قديمة في المنطقة اندفعت للسيطرة عليها والانتقام من شعوبها مجدداً، عبر توظيف هذا «الخُبْلِ» والسذاجة الطائفية الإسلامية التي أطلق عليه تجاوزاً وصف «جهاد». فإيران استغلت الأساطير الشيعية والتطرف الشيعي في المنطقة للسيطرة على العراق ونفطه والتمدد في سوريا ولبنان واليمن. ونجحت في استبدال الراية العربية الخضراء بعلم حزن أسود يطالب بأن ينتقم بعض العرب من بعضهم الآخر لمقتل الحسين!!!.
منعت «داعشتان» التعليم في المدارس واستبدلته بحلقات درس في المساجد لتصحيح معتقد الضعفاء تحت سيطرتها الذين اعتبرت أنهم يعيشون في مرحلة «جاهلية» سابقة لها، على الرغم من أنهم من بنوا هذه المساجد وعمروها بالعبادة، والكثير منهم سبق أن حج واعتمر وزكى، لكن ذلك كله غير مقبول ما لم يكن على المذهب «الداعشي». وهي تحذرهم بإهدار دم ذويهم لو هاجروا لأراض الكفار في ديار الحرمين!!! وتم استنباط أنواع من النكاح الوقتي المبني على ضرورة الجهاد، حيث يترك المجاهد الذي تم ندبه لثغر آخر زوجته ليتزوج بها زميله قبل إكمال عدتها. وأصبحت داعش قبلة للفتيات الغربيات اللائي حباهن الله بمخيلة واسعة للفوز بهذا الشرف، واستبدل الاقتصاد بمحصلي ضرائب يجوبون المزارع وأسواق الماشية لجمع الزكاة، وحولت الحدائق العامة والمتاحف إلى دكاكين من التنك يتم تأجيرها لصالح الدولة على المواطنين.
داعشتان ليست دولة بل «رحى» تاريخية ضخمة يطحن فيها التاريخ العربي والإسلامي لتذروه الرياح غباراً خانقاً قاتلاً يقضى على ما تبقى من أمل في مستقبل واعد للأمة. تعددت أشكال الاستعمار وبقيت أداته واحدة: الجهل والصراع الطائفي. وصدق الله العظيم في محكم كتابه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23) سورة الجاثية، فلم يسبق أن استغل هذا الدين العظيم لأهواء سياسية كما هو الحال اليوم.