التقيت، لأول مرة، بالدكتور راشد المبارك، رحمه الله، في يوم من أيَّام شهر ربيع الآخر، عام 1404هـ. كان ذلك في مكتبي في السفارة السعودية في باريس. جاء إلى أوربا، موفداً من شخصية سعودية رسمية عالية المقام، في مهمة وطنية نبيلة. كان معه، رفيقاً في تلك المهمة، معالي الأخ والصديق الدكتور محمد بن أحمد الرشيد وزير التربية والتعليم الأسبق، رحمه الله.
لم أكن قد سمعت به، أو قرأت له. فنحن، على صعيد العمر، من جيلين متباعدين. عندما كان هو طالباً متألقاً بين أقرانه، في كلية العلوم في القاهرة، كنت، طوال أعوام الستينات وحتى منتصف السبعينات، مثقلاً بأعباء وزارتي الإعلام والصحة في بلادي. وعندما عاد، عودة الدارس الذي توج مسيرته الدراسية بشهادة رفيعة المستوى، في علم من أكثر العلوم التصاقاً بالحياة، وبدأ حضوره يتنامى في أوساط العلم والمجتمع، كنت أنا قد غادرت عملي الوزاري كي أعمل سفيراً لبلادي في باريس.
أذكر عن لقائنا الأول، في باريس، أنه كان مستمعاً أكثر مما كان متحدثاً. وأذكر أيضاً أن كان لي رأي فاتر في ما أتوا عليه من حديث عن تلك المهمة، وأن صراحتي في الرأي ربما كانت محل دهشته وتقديره في آن واحد.
التقيته للمرة الثانية في منزلي في الرياض، وأنا في إجازة قصيرة من عملي في باريس. كان هو المبادر لتلك الزيارة. كاد يمنعني الحياء من أن أسأله عن تخصصه العلمي، لولا أنه أثار فضولي بالحديث عن شارل بودلير، الشاعر الفرنسي المثير للجدل، حديث العارف بما يتحدث. وأتى على ترجمة لبعض أبيات من ديوانه «زهور الشر» التي فجرت، في حينه، ضجة لم تهدأ بين مستنكر لشعر فاجر، ومساند لشعر يتحدى القيود والجمود!
لم أجتمع به بعد هذا اللقاء إلا نادراً. فقد شغلتني الأعوام الستة التي قضيتها، أميناً عاماً لمجلس التعاون، في سفر متواصل ومؤتمرات لا تنقطع، عن زيارة الأثيرين إليَّ من الأصدقاء. تواصلت معه بعد تقاعدي عن العمل، بعد أن أصبحت سيد الموقف أطوع الوقت كما أشاء، وأجعل منه وسيلتي لرغبات كثيرة. استوقفني جمعه بين الأدب وعلوم الطبيعة. وبدأت استزيد معرفة بما كان عليه من خلفية تعليمية في الأحساء، والرحلة التي انتهت به لأن يكون عالماً في مادتي الفيزياء والكيمياء.
أن يكون أديباً محباً للأدب، وشاعراً يتغنى بالروائع من الشعر، ومحدثاً حديث الواثق المقتدر، في قضايا الدين، وعربياً ينبري، حاملاً ألف سيفٍ وسيف، دفاعاً عن لغة القرآن، عشقه وهواه. أن يكون ذلك كله لأمر مفهوم، وهو الذي نشأ في بيت من بيوت العلم، في بيت آل مبارك، وما أحاط به من ينابيع لا ينقطع دفقها من علوم الدين واللغة والأدب. وكان ليبدو تواصلاً طبيعياً في مسيرته التعليمية لو أن (أبا بسام) جعل موضوع رسالته للدكتوراه بحثاً في واحد من المذاهب الأربعة، أو الإعجاز في لغة القرآن، مثلاً.
أن ينتقل في دراسته من علوم قائمة على التسليم الملتزم بمكوناتها، والقبول بما أتت به أو أتت عليه، دون أن يتاح للعقل حرية الخوض فيها، إلى دراسة علم الحياة، وما قامت عليه من نظرية السبب والنتيجة، وإعمال العقل المنطلق في كل جزئية من جزئياتها - لأمر يستوقفني في رؤيتي للدكتور راشد المبارك. ولكأني أرى في هذا التحول، في هـذا الاغتراب المنشود، في ما يشبه القطيعة بين مرحلتين من حياته الدراسية - أرى فكراً مسكوناً بهاجس البحث الذي لا يهدأ، مسكوناً بالرغبة في أن يَتمرد على كل ما فيه تحدٍ لقوانين الحياة، فأراد أن يشبع الفضول الذي يسكن فكره بدراسة علم الفيزياء والكيمياء، وما يفضي إليه من آفاق معرفية واسعة، وأن يظل، أيضاً، وعلى الدوام، الأديب، والشاعر، واللغوي الذي لا تشغله اهتماماته الفكرية عن هموم الوطن.
لقد جمعني، فيما جمعني به، حبي للأدب، وحبي لإعمال العقل، ورفض القيود التي يراد بها تعطيل مسيرة الوطن، أخذاً بمبرراتٍ سقيمة، وأعذار متحجرة. وكلما اجتمعت به أحسست باقتراب جديد منه. في قضايا الأدب كثيراً ما يكون هو المبادر إليها، وهو يعلم شغفي بها، ومتعتي بالاستماع لما يردده من روائع بدوي الجبل، وسليمان العيسى، والمعتمد بن عبّاد، وأنا الذي كنت على مدى الخمسين عاماً الماضية، في ما يشبه العزلة عن هذا العالم الجميل، الذي ظل دائماً واحداً من عوالمي المفضلة، غربتني عنه مسؤولياتي الإدارية، ولم يضعف شوقي الدائم إليه.
وتبلغ أحاديثنا ذروتها من المتعة، والثقة المتبادلة، عندما نأتي بالحديث عن قضايا الوطن، الدولة والمجتمع، مخاوفه وأمانيه، ونقف طويلاً عندما يحيط به من ظروف إقليمية مجهولة المسار، تخيف ولا تريح. ونقف وقفة الحائر المفزوع عند الحديث عن موضوع إخواننا الشيعة في المملكة، وحقهم في المواطنة الكاملة، والموقف المتشنج الرافض منهم، وما قد يفضي إليه ذلك من إحباط، فغضب، فانفلات في المشاعر، تطيش معها العقول فيكون الداء، عندئذ، قد استعصى على الدواء!
نتحدث عن غياب التربية الوطنية في المدارس، ومخاطر الضعف في الانتماء الوطني. عن برامج التعليم واغترابها عن مستجدات الحياة، وعجزها عن تلبية احتياجات الوطن. نتحدث، باستياء وغضب عن الرؤية المتخلفة للمرأة السعودية، في زمن أمسكت فيه النساء بمقاليد الحكم في دول إسلامية وغير إسلامية، في البنغال، وإندونيسيا وباكستان وإنجلترا وفرنسا وألمانيا والأرجنتين، وغيرها من دول أخرى. نتحدث عن كثير من هموم الوطن، ليس الحديث فيها قصراً علينا إلا أنه حديث محبب إلينا.
البعض من أصدقائه يراه شديد الاعتداد برأيه، إلى حد العناد. وأرى فيه محاوراً صلباً لا يتخذ موقفاً إلا وقد انغرست القناعة في نفسه انغراساً ثابت الجذور. قرأت له في «جريدة الجزيرة» مقالاً ينتقد فيه قراراً لوزارة المعارف، أباح لبعض المدارس الأهلية في المملكة تعليم الصفوف الأولى من المدارس الابتدائية بعض المواد باللغة الإنجليزية. كان في مقاله شيء من مشاعر المفجوع بقرار ينكر عليه حسن رؤيته، ويستنكر فيه تطاولاً على دور اللغة العربية في بناء الشخصية الوطنية للتلامذة الصغار. وكان في ما كتب، دفاعاً عن اللغة العربية، كشفٌ لمخاطر ذلك القرار وشجاعة في التصدي، والمنافحة بوجاهة الدفوع، ورقي العبارة. لا يكاد يفرغ من دفع حتى يصله بدفع آخر. والدكتور راشد، في موقفه هذا، يدافع بمشاعر الوطني الذي يخشى أن يكون في هذا القرار غزو صامت لواحدة من مقومات هويتنا، إن لم تكن هويتنا كلها!
وتبدو صلابة الموقف لديه أيضاً في ما أتى عليه في كتابه «نزار قباني بين احتباسين».
نزار قباني، الشاعر المبدع، نظم شعراً سكن قلوب العذارى، وفجر أحلامهن على مدى ستين عاماً، وزلزل مشاعر الكبار حزناً على عمر عاشوه ولم يعرفوا الحب فيه.. ورغم ما قد يكون في شعر نزار من المثير للجدل فإنَّ الإجماع قد انعقد له كواحد من عمالقة الشعر العربي في التاريخ المعاصر. وسمعت (أبا بسام)، على واحدة من الفضائيات العربية، يقول رأيه في شعر نزار على نحو من الصراحة، بل القسوة، لم أعهده في أحد غيره. غير عابئ بما قد يقوله محبو نزار وعاشقو شعره.
الدكتور راشد ذو فكر نشط لا يهدأ. وفي ساعات سكونه، يتحول السكون عنده لإغراق في التأمل في شؤون الوطن وقضاياه. وقل ما يخلو حديثه من تناول علة من علل المجتمع، يحاور، ويستجلي مكامن الداء فيها، ويجعل منها موضوعاً يكتسب الكلام فيه متعة وإثارة. ويقيني أن عزمه على تنظيم «أحدية الأسبوع» ليس إلا رغبة منه في أن يظل الحراك الفكري، في مجتمع محافظ، في حال من التجدد المستمر وسلامة العافية، واقتحامٍ للمحظور بالحديث الموضوعي الصادق في طرحه، البعيد عن جهالة المزايدات.
قدر لي أن أحضر أمسيتين من أمسياته الأحدية - حاضر في الأمسية الأولى منهما الشيخ حسن الصفار، العالم الشيعي الرزين، الذي حمله صدق المواطنة لأن يجعل في تلك الأمسية، من البحث في موضوع متفجر شائك، وسيلة لإجهاض مواقف التشنج، والدفع جانباً بالمبالغة والغلو، ودعوة المتجادلين للالتقاء على حب الوطن، وقطع الطريق على الجهالة والنية المشبوهة.
وفي الأمسية الأخرى كان المحاضر علماً من أعلام الفكر والسياسة في السودان، هو السيد الصادق المهدي، رئيس الوزراء الأسبق، الذي حدثنا عن مشكلة دار فور كما لم يتحدث بها آخر من قبل.
لا أدري، هل أطلت أم اختزلت في الحديث عن الدكتور راشد المبارك. وظني أني لم أوفه حقه بما هو عليه. وأريد أن أهمس في أذنه: لا تنس يا (أبا بسام) أننا إذا كنا، كما ذكرتُ، على صعيد العمر، من جيلين متباعدين، فإننا، على صعيد الفكر، نحن من جيل واحد.
- بقلم: جميل الحجيلان