قلتُ في كذا مقال إن مجتمعنا ليس بدعاً من المجتمعات الأخرى، ولاسيما المسلمة منها، ومَنْ يرِدْ محاكاة مدينة أفلاطون الفاضلة فليبحث عنها في خياله، لا في واقعه. يبدو أن البعض منا يعيش أزمة في ذاته، يريد أن ينقلها بغثّها لمجتمعه، ويشغل بها عباد الله. وقلتُ لكم مراراً وتكراراً إن فئتين ما برحتا تمطرنا بين الفينة والأخرى، بكل ما هو مثير، يدعو للتعجب والضحك من جهة، وتجزم بأنه يدعو للتأليب والشحن والإثارة، من الجهة الأخرى، وذلك عندما نراه يصنع من الحبّة قبّة. واجهتُ الكثير من اللوم وأنواع السبّ والشتم والتحقير والسخرية من جراء عتبي على تصرفات بعض دعاة اليوم، هذه التصرفات التي أكسبتهم - أي الدعاة - هالة من الجذب والتقديس، لم يكن يحلموا بها مجرد حلم، ناهيك عما اكتسبوه من شهرة ومال، فاق مال قارون، بشهادة أحدهم على الملأ، وليس افتراء عليه. نرى موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» قد بات مرتعاً خصباً لأنصاف المتعلّمين (المتعالمين) ومن يرقص رقص المجنون، عندما يُطلق عليه لقب الداعية، وهو لا يعدو إنساناً بضاعته مزجاة في العلم الشرعي، ولو تنازلنا قليلاً معه فلا أظنه يتجاوز محيط الواعظ، وكل دعاة اليوم يصدق عليهم لقب الواعظ، ولا يتجاوزونه إلى لقب الداعية، فثمة فرق بين اللقبين، فالداعية مأخوذ من الدعوة إلى دين الله، بمعنى آخر، يُفترض أن لا يتجاوزوا مهنة دعوة غير المسلمين إلى دين الله، إن كانوا صادقين، فلدينا جالية كبيرة غير مسلمة، بحاجة لهم ولدعوتهم، أما المسلمون فهم بحاجة إلى التذكير عن طريق الوعظ ليس إلا! (ما علينا)، تعالوا لنبحر معاً مع تغريدة لأحدهم في خضم تغريداتهم المثيرة، يقول فيها إن الحرم المكي بات مكاناً للمتبرجات الفاتنات اللاتي يشغلن عباد الله، وإن الكثير (لا حظوا الكثير!) أعرض عن زيارة المسجد الحرام خشية أن يفتتن بهؤلاء النساء المتبرجات. قلتُ بنفسي: أما يخاف الله هذا الشاطح بقوله هذا، وافتراءاته التي لاقت امتعاضاً وتندراً من جهة، ووجدت بعض الراقصين على وترها، ممن وجدها فرصة لانتقاص أدوار الرئاسة العامة للحرمين الشريفين، التي يضطلع بها مشايخ، قلتُ فيهم إنهم من بقايا السلف، أعني بهم الشيخ السديس والشيخ الخزيم والشيخ الفالح، ولا أزكيهم على الله، لكن أحسبهم من الأخيار، هم ورجال الحسبة، الذين يجوبون أروقة الحرمين الشريفين، بتوجيهاتهم ونصحهم، كما شاهدنا ذلك، ولا يمكن لكائن من كان، أن يحد هذه الأدوار وهذه الجهود المشكورة، ثم يأتينا نكرة من النكرات، يحاول نسف هذه الجهود الخيّرة، فقط ليسجل اسمه في قائمة الباحثين عن الشهرة، ويركب موجة المعاكسين، هو بفريته تلك يصدق عليه المعاكس، وليس ذاك الشاب المراهق، كون مظهره الملبّس على الناس لن يشفع له. نعم، قد يكون شاهد حالة أو حالتين مما يراه هو تبرجاً، لكن لا يجوز له أن يسحب ذلك على نساء فضليات عفيفات، قدمن من أجل العبادة، هل يعتقد أنهن تكبدن المشاق حتى وصلن لهذه البقعة المشرّفة من أجل أن يعاكِسن أو يعاكَسن؟ وهل من قدم من الرجال والشباب لهذه البقعة لأداء عمرة أو طواف أو صلاة همه النظر بشهوة لامرأة متبرجة؟ لو سلمنا بقول هذا الشاطح فالجوّ العام داخل الحرمين الشريفين، بطبيعته، يرفض وينفر من تصرفات سلوكية شائنة كهذه، فما بالك بتبرج أو معاكسة؟ الجموع الغفيرة مشتبكة بمنظومة بشرية، تسيطر عليها المشاعر الإيمانية. الكل شاخص بصره للكعبة المشرفة أو بمصحف يتلو فيه آي الذكر الحكيم.. ليس همّ الجميع امرأة متبرجة مرّت أمام ناظريهم، وزرها على نفسها. زعم هذا الشاطح أن الكثير يعدل عن زيارة الحرم المكي بسبب وجود نساء متبرجات. أظنها فرية جانبها الصواب؛ فالكل نفسه تواقة لزيارة الحرم، لكن مشاريع التوسعة قد تحول دون تحقيق مثل هذه الزيارات. والمسؤولون في رئاسة الحرمين الشريفين ينصحون الناس بتأجيل زياراتهم للحرم المكي مراعاة لظروف التوسعة، فلا ينبغي تجييرها - كما يزعم هذا الشاطح - بسبب وجود نساء متبرجات، ولكأنهن بعبع مخيف، يهدد الزائرين ليفترسهم. هذه مبالغات وتهويلات، لن يسمعها ولن يقبل بها إلا من كان في قلبه مرض، أو شيء من الوسواس. المشكلة المؤرقة أن غزاة «تويتر» من بعض من يتدثر بالدين سخّروه لتشويه صورة الدين السمحة. باتت هذه النوعية المتدثرة بالدين، مظهراً لا مخبراً، تستغل الظروف؛ لتصنع من كل (حبّة) تقع في محيطها (قبّة) يلوكها الرعاع والدهماء من الناس، هدفهم تقزيم جهود الدولة في مجال الدعوة للخير، وتقزيم أدوار رجال الحسبة. ولا أخال من يرمي مثل هذه الفقاعات إلا أنها (تعشعش) في رأسه سلفاً، ويظن حال العباد كحاله.. وكلٌّ ينظر للناس بعين طبعه، كما يقال. هو يعرف أنه قد كُفي مؤونة ذلك، برجال نحسبهم رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وثقت بهم الدولة، وهم يقومون بأدوار، لا يستطيع هو القيام بها أو بجزء منها، فلماذا يتحرش بهم وبنساء المسلمين بهه التهمة؟ ألا يخاف الله في نفسه، ويدع ما ارتفعت مسؤوليته عنه؟ فليس طريقته هذه بطريقة الناصح الصادق، بقدر ما هي طريقة المرجف، المهوّل. نسأل الله لنا وللجميع الهداية. ودمتم بخير.