د. محمد عبدالله العوين
لا أكاد أصدق أنني أسير في معرض الكتاب الدولي بالرياض متنزها بين كل هذه الخمائل الوارفة والقطوف الدانية والثمار اليانعة من ألوان المعرفة وألوان الفكر وأطايب الفنون والآداب!
لا أصدق أن زمنا أصبته ونالني من نفحه وطيبه وكرمه وعطاياه ما نالني؛ فوهبني ما أتمناه وأشتهيه مما كنت أتمناه وأتطلبه فلا أجده؛ بل يعسر علي في بعض الأحايين أن أتمناه أو أطلبه أو حتى أفكر فيه!
لا أصدق أنني بعد حرمان سنين ممحلة مرت، وأعوام مجدبة ولت أستطيع أن أضع يدي فأقلب صفحات كتب كان مجرد ذكرها يوقع في الخطيئة وقد يستوجب العقاب لأسماء محفورة في الذاكرة لا تغيب من المفكرين والأدباء القدماء والمحدثين، لقد أدركتك يا محمد نفحة من حظوظ طيبة؛ لتنعم لست وحدك فحسب؛ بل ليشاركك كرم الحظوظ وسخاء الأريحية وجمال التسامح آلاف وآلاف مؤلفة من عاشقي الكلمة، فترتعون معا في عطايا الفكر الإنساني وإبداع المواهب العبقرية من كل الأمم والشعوب؛ فدونك أيها الفتى الذي كان يناضل ويفاصل ويوسط ويخبئ تحت الإبط وبين الملابس المكومة في الحقيبة ثمار العبقرية البشرية المحرمة في عرف الرقيب؛ دونك أيها الفتى المحروم ما حرمت منه طوال سني عمرك التي صوحت ولم يسعفها القدر إلا متأخرا بهذه الأريحية السمحة التي شملت كل البشر من بدو وحضر!
دونك وأنت تتسكع بين رياض الكتب في الرياض لا يفوتك أن تحتضن «أزهار الشر» لبودلير، ولا «الأم» لجوركي، ولا «1984» لجورج أورويل، ولا «في الشعر الجاهلي» لطه حسين، أمامك الآن أيها الفتى في هذه الخمائل ابن رشد والفارابي وابن سينا وابن عربي والغزالي، وبين يديك ستاندال وهوجو وكامو وسارتر وجوته وفلوبير وعلي عبد الرازق وقاسم أمين والكواكبي ونظيره زين الدين ونصر أبو زيد وعبد الرحمن الشرقاوي ونزار قباني والسياب وميخائيل نعيمة وجبران ومي زيادة ووجوه أخرى ناضرة باسمة مشرقة متوردة فواحة بالشذى والعبير.
ياه؛ كنت تراسل هذه الدار أو تلك، وهما الآن ومئات غيرها بين يديك؛ هل تتذكر زمنا مجدبا قاسيا مر بك وبأقرانك لا تستطيع أن تدخل معك بعض ما يروق لك مما تقع عليه عينك أو يستهويه قلبك وعقلك من الكتب؟! لا بد أنها لا تغيب عن ذاكرتك التي لم تشخ بعد تلك الساعات الطويلة المنهكة التي تقف فيها بين الأرفف المتراصة الضيقة في مستودع مكتبة عم «مدبولي» بالقاهرة الذي يقع خلف مكتبته المشرعة الأبواب؛ فحينما رأى فيك شغفا إلى البحث عن النوادر المخبأة التي قد لا يطلبها إلا من هو كلف بها سار بك حتى أدخلك من الباب الخلفي للمكتبة ثم أغلق عليك الباب بالضبة والمفتاح، وقال لك: حين تخلص أيها الفتى النجدي من انتقاء ما تريد بين هذه الأكوام المتراصة المغبرة على الأرفف المحصورة بين الممرات الضيقة «إنده» علي من هذا الباب المغلق وسأسمعك وآتي لأخرجك فورا من معتقلك اللذيذ؛ قالها وهو يقهقه بلهجة صعيدية أقرب إلى حديث العوام غير المتعلمين!
لا مشكلة الآن أن أجد ما أتمنى؛ فقد نسيت نفسي ساعات ماتعة بين الكتب؛ ولكن خوفي من عيون الرقيب المتربص تكاد تذهب بحلاوة بكل هذه المتعة؛ لا أشك مطلقا أنه سيفتش بيديه الاثنتين فيدسهما بعمق بين الملابس المكومة بقصد وعناية لتخفي ما تحتها من عشرات المفكرين والكتاب والمبدعين المختبئين بين ثناياها في قلق وتوجل من القبض عليهم!
هل تتذكر يا محمد كيف كنت تتبادل «الخبز الحافي» لمحمد شكري في ظرف مغلق محكم بين مجايليك ومن يكبرونك أيضا من يد إلى يد؟!
كيف شملتنا هذه الرحمة المتأخرة دفعة واحدة فانشقت الحجب، وانفتحت أبواب الفضاء، وازدهت أجنحة المعرض بكل طارف وتليد!
كيف احتملت أيها الفتى الهارب من زمنك المر قسوة ذلك الحرمان وكثافة تلك الحجب المسدلة عن الحياة؟!