كل يوم نشيع غادياً ورائحاً كما قال الشاعر:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلة حدباء محمول
ويقول آخر:
إذا تم المدى نفذ القضاء
وما لامرئ عما قضى الله مهرب
نعم، هذه الحقيقة، وكل مخلوق لا بد أن يشرب من هذا الكأس. قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ . ولكن القاسم المشترك أن بعض الأموات يُذكر بخير فيتجدد ذكره، وتعدد محاسنه، ويُشهد له بخير، والبعض الآخر كما يقول المثل: [حجر زل]، بمعنى أن له مساوئ وعليه مآخذ، وهذا يوضحه ويؤكده ما رواه أنس رضي الله عنه: (عن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم «وجبت»، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم «وجبت». فقال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ: ما وجبت؟ قال: «هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار؛ أنتم شهداء اللَّه في الأرض») مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
صدق رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأن أمته لا تجتمع على ضلالة، وهذا ما شهدت به الجموع الغفيرة التي أتت من كل حدب وصوب يوم الثلاثاء 12-05-1436هـ للصلاة على الشيخ/ عبدالله بن مبارك الرشود. وكان اللافت للنظر كثرة المشيعين، وكان بعضهم يعزي بعضاً، فتبادر إلى ذهني قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مئة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه) رواه مسلم.
نعم، إي وربي، إن الحضور يتضرعون إلى الله أن يرحمه ويدخله واسع رحمته، وكانوا يعددون محاسنه. ومما أطروه وذكروه كرمه وجوده وسمو أخلاقه وسداد رأيه. فأما كرمه فمهما حاول محبوه - رحمه الله - حصره فلن يستطيعوا، ولكن من العدل والإنصاف أن هذا الرجل فذ في كرمه، وحيد في تعامله وصفاته، فكان يفتح باب منزله صباحاً ومساء، ففي الصبح يستقبل محبيه وزائريه بابتساماته المعهودة وخلقه الرفيع، ويقدم لهم كل ما يخطر على البال من أطايب الشراب وأصناف الطعام. وأما العشاء فحدث ولا حرج؛ إذ يحضر العشاء بعد العشاء، وكان هذا ديدنه - رحمه الله - يومياً، وكان يلاطف زواره ويحادثهم بأصدق عبارة كما قال الشاعر:
وإني لَطلْقُ الوَجْهِ للمبتغي القِِرى
وإن فنائي للقِرى لخصيب
أضاحك ضيفي قبلَ إنزال رَحله
فيخصب عَندي والمكان جديب
أما سداد رأيه وصواب جوابه فكان يأتيه الكثير من الناس يستشيرونه ويأخذون من رأيه، فيصدر كل منهم على ما يراه متوافقاً مع الحق وفي صالحه. فعقله كبير، وصمته طويل، وسمته عظيم.. وهذا ذكرني بما روي عن المهلب بن أب صفرة أنه قال: (يعجبني أن أرى عقل الكريم زائداً على لسانه، ولا يعجبني أن أرى لسانه زائداً على عقله). وهذا ما يتحلى به الشيخ عبدالله - رحمه الله - فعقله زائدٌ على لسانه؛ فكلامه حكم، وصمته تفكر.
ومما تجدر الإشارة إليه أن أبناءه رجال صالحون، ويحبون الخير، ويسعون إليه.. والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له). فمن هؤلاء الأبناء من هم في وظائف مرموقة في الدولة - أعزها الله بالإسلام -. وقد حضرت والدهم - رحمه الله - وهو يوصيهم بعد تقوى الله بالرفق بالمراجعين، والإحسان إليهم، وتسهيل أمرهم، قائلاً: (إن حكومتنا - وفقهم الله - يحبون الخير ويحثون عليه).
هذا فيض من غيض، فما يتصف به الشيخ/ عبدالله بن مبارك الرشود - رحمه الله - لو حاولت تسطير جل محامده لما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
فرحم الله أبا سلطان، وجمعنا به ومن يحبنا ونحبه في مستقر رحمته. وصلى الله على نبينا محمد.
عبدالعزيز بن راشد آل رشود - المستشار الشرعي بإمارة منطقة الرياض سابقاً