د. عبدالواحد الحميد
في أكثر من مدينة عالمية كبرى زحفت المباني العشوائية وتمددت حتى غطَّت أجزاء كثيرة منها!.. في البداية تتوالد العشوائيات في أطراف المدن، ثم تزحف حتى تلتحم بها وتصبح جزءاً منها. بعض العشوائيات يبدؤها الفقراء والمُعْدَمون بدافع الحاجة الماسّة للسُكنى، وفي الغالب هُمْ يأتون من الأرياف الفقيرة التي تلفظهم، وتُلقي بهم في أتون المدن حيث لا مأوى سوى الصفيح، وعندها تنشأ مدن الصفيح البائسة التي تصبح مرتعاً للجريمة ثم يفيض بؤسها على كل المدينة. أما الجانب الأكثر إظلاماً وظلماً فهو العشوائيات التي يبدؤها لصوص الأراضي ويتاجرون بها بيعاً وشراءً، مستغلين حاجة ذوي الدخل الضعيف الذين يبحثون عن سقف يستظلون به، حتى لو كان يفتقر إلى أبسط مقومات السكن الذي يليق بآدمية الإنسان.
مؤخراً، حالت أمانة محافظة جدة دون استيلاء لصوص الأراضي على أرض حكومية تبلغ مساحتها أربعة ملايين متر مربع كانوا يعملون على تحويلها إلى مخطط عشوائي وبيعه على المواطنين، وكأن ذاكرة الناس نسيت مأساة غرق جدة التي ذهب ضحيتها سكان العشوائيات!.
هناك من يُحارب العشوائيات لأنها، بحسب التعبير السائد، بثور في وجه المدينة ومساحات من القبح العمراني الذي يفسد جمال المدن.. لكن هذا آخر ما يفكر فيه مواطن يحتاج إلى سكن، ومعه كل الحق، فالسكن ضرورة وليس ترفاً، وأزمة السكن الخانقة لم تترك خيارات كثيرة للمواطن.
وأياً كانت الاعتبارات الجمالية العمرانية، فإن الأهم من قصة «بثور المدينة» هي أن العشوائيات خطيرة على ساكنيها قبل غيرهم، ومأساة غرق جدة هي أكبر دليل على ذلك.. وقد يستحيل توفير الخدمات الضرورية لسكان العشوائيات مثل الماء والكهرباء، وربما يستحيل أيضاً توفير خدمات الإطفاء والإسعاف وحتى الأمن في الوقت المناسب عند وقوع الأزمات والطوارئ بسبب ضيق الشوارع واكتظاظها وتداخل الأحياء والحواري.
لصوص الأراضي لا يأبهون لأيٍ من هذه الاعتبارات، فهم يريدون أن يكسبوا المال ثم يمضون إلى حال سبيلهم ويتركون سكان العشوائيات يواجهون أقدارهم بانفسهم. هؤلاء اللصوص يعتبرون أن ما يقومون به من تعديات هو شطارة ولا يهمهم أن تتحول كل أحياء المدن إلى عشوائيات.
هل ستكتفي أمانة محافظة جدة بمصادرة الأرض التي اعتدى عليها اللصوص؟.. إنها لو اكتفت بذلك فسوف تشجع لصوصاً آخرين على إقامة المزيد من المخططات العشوائية التي ستبتلع مدينة جدة.
لصوص الأراضي يجب التعامل معهم بوصفهم خطراً على المصلحة العامة لكل الناس، وليس فقط مثل اللصوص الذين يسرقون فرداً من الناس، ولذلك فهم يستحقون من العقوبات ما يزيد على العقوبة التي يتم إيقاعها باللص الذي يسرق مالَ فردٍ من الناس.. أخيراً، لصوص الأراضي الذين أحبطت أمانة جدة تعدياتهم ليسوا هم آخر اللصوص وليسوا هم الوحيدون، فليت أمانة جدة وجميع الأمانات تتعقب كل اللصوص وتطيح بهم وتعيد ما يسرقونه من المال العام إلى الصالح العام.