عبدالعزيز السماري
تضع حركات الإسلام السياسي بمختلف اتجاهاتها شعار تطبيق حدود الله عز وجل على صدر صفحاتها، وتحاول بذلك أن تصل إلى كسب ولاء الإنسان المسلم، ومن ثم توجيهه إلى المسار السياسي من أجل خدمة مصالحها، لكنها من خلال ذلك الشعار تمرر بأسلوب غير مباشر، أن الحدود في الإسلام هي العقوبات الدنيوية، ويمر تطبيقها عبر استخدام وسائل المطاردات والعنف والتسلط لفرض حدود الله على الناس، بينما يتضح من خلال نظرة مبسطة لمقاصد هذا الدين العظيم أن العقوبات لا تُشكِّل إلا جزءاً يسيراً من منهجه الشمولي، وتظهر في أحكام القتل والسرقة والزنا وحد الحرابة، بينما لحكمة ربانية تُركت أحكام التعدي على حدود الحلال والحرام للإنسان لينظمها، ويصدر فيها التشريعات.
لذلك كان تفسير «حدود الله» في القرآن الكريم مخالِفاً للطرح السياسي الشهير، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (229) سورة البقرة، {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} (187) سورة البقرة، وجاء تفسيرها أن تلك معالم فصوله، بين ما أحل لكم، وما حرم عليكم أيها الناس، وقال ابن القيم رحمه الله، فيما نقله ابن حجر عنه: «الصواب في الجواب أن المراد بالحدود هنا «الحقوق» التي هي أوامر الله ونواهيه»، وهي المراد بقوله: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (229) سورة البقرة، فلا تعتدوا ما أحل لكم من الأمور التي بيّنها وفصّلها لكم من الحلال، إلى ما حرّم عليكم، فتتجاوزوا طاعته إلى معصيته، أي أن حدود الله تعني الحد الفاصل بين الحلال والحرام، ونهى عز وجل عن الاعتداء عليها من قبل الجانبين، ولذلك تُعتبر ظاهرة التشدد أو «التحوط» في توسيع دوائر الحرام تدخل أيضاً في الاعتداء على حدود الله عز وجل.
كان من حكمة الخالق أن تكون أغلب حدود الله عز وجل بدون عقوبات دنيوية، فعلى سبيل المثال لا تُوجد عقوبات للربا أو أكل لحم الميتة والخنزير أو عقوق الوالدين والميسر والكذب والتزوير، وفي سرقة ما لا قطع فيه، لعدم توافر شروط النصاب أو الحرز مثلاً، وتدخل فيها أيضاً تقبيل الأجنبية، والخلوة بها، والغش في الأسواق، والعمل بالربا، وشهادة الزور، والتبرج للنساء، وإلقاء الأذى في الطريق، كما تدخل في حدود الله عز وجل قضايا التعسف والتسلط ومضايقة الناس وتشويه سمعتهم وغيرها من الحدود التي شرعها الله عز وجل للفصل بين الحرام والحلال في حياة البشر.
كان الحل من قِبل الفقهاء لحدود الله التي لم يرد فيها أحكام في الدنيا، وهي الأغلب لحكمة ربانية، أن يكون في الإسلام بابٌ للتأديب اتفق على تسميته بالتّعزير، ما عدا المالكية لم يكن لهم بابٌ في التعزير، ومضمونه أن يكون للمشرع الإنسان حق الاجتهاد في إقرار عقوبات الاعتداء على تلك الحدود، والإشكالية الحالية أن هذا الباب تُرك للاجتهاد الشخصي في ذلك العصر، ولم يتفق الفقهاء والمختصون على إصدار تشريعات منظمة في كتاب واحد، يكون مرجعية للجميع، ويظهر ذلك في اختلاف الأحكام من قاضٍ إلى آخر في نفس القضية.
حسب ما ورد في كتاب كشاف القناع عن متن الإقناع لمؤلفه منصور بن يونس بن صلاح الدين بن حسن بن إدريس البهوتي الحنبلي (المُتوفى: 1051هـ)، أن الحدود التي لم يرد فيها عقوبة مثل اللواط، وكسرقة ما لا قطع فيه، لعدم الحرز أو لكونه دون ربع دينار ونحوه كجناية لا قصاص فيها، تخضع لباب التعزير أو التأديب، لكن عدم تنظيمها في باب موحد للأحكام، وقابل للتطوير والتحديث، جعلها عرضة للتناقض، ولاختلاف ملفت للنظر في العقوبات بالرغم من أنها قضية واحدة.
مثال ذلك أنه خلال السنوات الماضية صدر حكم «بالإعدام» في حق فاعل الفاحشة في حدث بالقوة، وصدرت أحكام من قاضٍ آخر «بالسجن» في قضية اختطاف حدث واغتصابه، كما نشرتها الجرائد الرسمية، وكانتا جريمتي اغتصاب، وتُعتبران أشد وطأة وحرمة من اللواط، كذلك هو الأمر في قضايا السرقة في غير حرز، والتي تُعتبر الأكثر وقوعاً، وتختلف أحكامها بسبب خضوعها للاجتهاد الشخصي، ويدخل في ذلك قضايا كثيرة يَصعُب حصرها في هذه العجالة، مثل قضايا التجسس على الناس وفضحهم، والتي تُعد مخالفة لحدود الله، ولم تصدر فيها عقوبات محددة!.
ترك باب التأديب مفتوحاً على مصراعيه يفتح الباب للتعسف والتسلط والاجتهادات الشخصية وللاحتساب الفوضوي، وأيضاً للتناقض في الأحكام، لا سيما أن جرائم الإنسان بشكل عام تزداد مع تقدم العصور، وأيضاً تتطور تعريفات الجناية والجريمة، وتخضع في كثير من الأحيان للعقل الجمعي ولخبراء التشريعات لوضع تصورات محددة لها، فعلى سبيل المثال لم يرد حُكمٌ إلهي في جرائم المعلومات، ولم تُشرع عقوبات في المخالفات الطبية، ولم تصدر أحكامٌ شرعية في اضطهاد الأطفال، وفي المعاملات المالية، وفي المخالفات المرورية، وفي التسلط الإداري، والتفرقة العنصرية، وغيرها من الأمثلة.
ذلك يعني أن الحاجة للتقنين مُلّحة، ولا تخالف الدين الإسلامي، فالفقهاء الأوائل جاؤوا بباب التعزير لإصدار اجتهاداتهم البشرية إن صحّ التعبيرُ في الحدود والقضايا التي لم يرد فيها عقوبة، وأيضاً في القضايا المستجدة في حياة الإنسان، ومحاولة إخفاء مثل هذه الحقائق فيها تسييس للدين، وهو ما تحاول تيارات الإسلام السياسي بمختلف أنماطها أن تبيعه للمواطن العادي، بينما تدرك قياداتها وفقهاؤها أن الأمر، «عندما يصلون»، سيخضع لأهوائهم ومصالحهم، وذلك من خلال استغلال تلك الفسحة التي شرعها الله عز وجل للمسلمين لإحكام القبضة على العقول.
من أجل إغلاق هذا الباب يجب كشف الأمر للناس لئلا يُستغلوا، والاستفادة من مختلف الخبرات الإنسانية في العمل على إرساء قواعد تنظيمية للأحكام وعقوباتها، تحاكي القانون الحديث، لكنها لا تخالف المقاصد الشرعية، ويلتزم بها القضاة في المحاكم، وبهذا يتم إغلاق تسييس الدين، ومن ثم الدخول في تواتر حلقات التطور الإنساني، والتي لا يمكن أن تخالف الدين الحنيف، لأن الله عز وجل بحكمة ربانية ترك أغلب أحكام حدود الله في التعدي على الحرام والحلال في يد الإنسان على شرط أن يكون العدل منهاجاً في تنظيماته، والله على ما أقول شهيد.