الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
أكد عدد من رؤساء الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم أن أهم ما يجب أن يُعني به هو الفكر الذي من خلاله تتشكل مفاهيم حياتنا، ومنه تنطلق معتقداتنا، وعليه تُؤسس تصرفاتنا. وقالوا: لقد أمرنا الله بالتوسط في كل أمور حياتنا، فالتوسط مطلب بل غاية، ولا يستقيم مجتمع يقوده فكر متشدد، ولن ينعم بسلامٍ مجتمع يتأرجح بين فكر مستورد لا يتواءم مع ما ارتضاه الله لبني البشر.
وأشاروا: إن أهمية الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم، والحلقات القرآنية ودور التحفيظ النسائية، التي ينخرط فيها أكثر من 900 ألف طالب وطالبة في المملكة، تبرز في أنها الأكثر تأثيراً في توعية وتحصين الشباب والفتيات، وتوجيههم، وغرس منهج الوسطية والاعتدال، والإيمان الصادق والعبادة الصحيحة في نفوس وقلوب الناشئة. وأوضحوا أن دور هذه الجمعيات يعد الأقوى في تحقيق الأمن الفكري، ومواجهة التشدد والانحراف، وتعرية الفكر الضال، مشيرين إلى أن هناك برامج مهمة يمكن أن تقوم بها جمعيات التحفيظ لترسيخ مفاهيم الأمن الفكري لدى الناشئة والشباب. وللتعرف من كثب على أبرز ما تقوم به الجمعيات القرآنية.. كان هذا الاستطلاع مع عدد من القائمين على إدارتها.
أساس متين وقويم
بداية يقول رئيس الجمعية بمنطقة المدينة المنورة، الدكتور علي بن سليمان العبيد: إن الغلو والتطرف ظاهرة لا يكاد يخلو منها مجتمع من المجتمعات، ولا زمن من الأزمنة، ودين الله - تعالى - هو بين الغالي فيه والجافي عنه، وهو دين الوسطية والاعتدال؛ لأنه الدين الحق الذي ارتضاه الله - عز وجل - للبشرية، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟! مضيفاً: والجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم والتي تقوم بأعمالها ساعيةً وملتزمةً بأهدافها السامية التي أنشئت من أجلها في ظل إشراف ومتابعة من وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد وما تحظى به من دعمٍ لا محدود من القيادة الرشيدة - أيدها الله - قامت على أساس متين وقويم، ألا وهو تخريج أجيال حافظة لكتاب الله - تعالى - ملتزمة بكتاب الله - تعالى - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على منهج السلف الصالح، وهو المنهج الذي سارت، وقامت عليه حكومتنا المباركة منذ تأسيسها إلى اليوم، مشيراً فضيلته إلى أن العطاء تضاعف، وأعداد منسوبيها نمت؛ لتصل إلى أكثر من تسعمائة ألف طالب وطالبة، تخرج منهم عشرات الآلاف من حفاظ وحافظات القرآن الكريم، وهم فئة مباركة نهلت من ذلكم المعين الطيب، فزكت أنفساً، وطابت أعمالاً، واستنارت أفئدةً، وسارت على الوسطية والحنفية السمحة بعيدةً عن الغلو وفساد المنهج وسوء الطوية. ولا شك أن استمرار الجمعيات وقيامها بأداء هذا الواجب، والحرص عليه هو صمام أمان للأمة، ونشر للوعي والفهم الصحيح؛ فالقرآن الكريم نور يضيء الطريق، ويشرح الصدور، فلا ينتج عنه إلا فكر مستنير، وحرص على الخير لجميع الأمة. كما أن الإكثار من حلقات تحفيظ القرآن الكريم، ومتابعة الإشراف عليها، واختيار المعلم الكفوء الواعي.. كل هذه عوامل تسد منافذ الأفكار المنحرفة والجافية، الأفكار الغالية بسبب البعد عن العلم الشرعي الصحيح، وارتجال في الفهم يغذيه عاطفة غير منضبطة بفهم العلماء الربانيين، وقال: رأينا وسمعنا أن أكثر فئة من الفئات المغرر بها ممن ليس لديها معرفة شرعية صحيحة، مشيراً إلى أن الجمعية إضافةً إلى ما تقوم به من جهد رائد في مجال التدريب والمتابعة حرصت على تعاونها مع عدد من المراكز المتخصصة، وأبرزها مشاركة منسوبيها في الدورات التي يقدمها مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني المتعلقة بموضوع (الأمن الفكري ونبذ التطرف), وهي تجربة تدعونا إلى أهمية عرض فكرة الاستفادة من المراكز العلمية والحثية، وتوسعة عقد البرامج المتخصصة والشراكات الداعمة لهذا الهدف النبيل من خلال عقد شراكات تعاون مع مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، والجامعات، ووزارة التعليم. وقد كان للملتقى الثالث للجمعيات الذي عقد في المنطقة الشرقية إسهام جيد في تفعيل هذا الجانب.
معلم الحلقة
من جانبه يقول رئيس الجمعية بالمنطقة الشرقية الشيخ عبدالرحمن بن محمد آل رقيب: إن العمل الذي ينبغي أن تقوم به الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم هو الاعتناء أولاً بصانع اللبنة لأبنائنا، وهو معلم الحلقة، من حيث الفكر الذي يحتويه من حين اختياره إلى أن ينهي عقده مع الجمعية؛ لأنه هو من يوجه في تلك الحلقات. ولا تغفل الجمعيات عن الجهد المهم لها في عملية المتابعة الدورية، وتطبيق الأنظمة التي نصت عليها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد للحلقات، والتواصل مع الإمام وجماعة المسجد، للوقوف على مدى نجاح هذه المتابعة وهذه الحلقة، وتسجيل كل ما يقال، أو يرد للنظر في مدى نجاح الحلقة، ومدى إمكانية تطويرها واستمراريتها في هذا الجامع أو المسجد، وإقامة البرامج التوعوية التي تهم حفاظ القرآن من حيث تدبر كلام الله، والتوجه للوسطية في الأقوال والأعمال، وإنارتهم برسالتهم في المجتمع وما يمثلونه من قدوات للأمة، وحماية الجانب الفكري والسلوكي لهم من الفكر الضال بجميع الطرق الممكنة، والتواصل مع الأسرة بنتائجهم الفصلية من خلال التقارير الدورية التي ترفع نهاية كل فصل دراسي، وأيضاً التأكيد على رسالة المرأة، فهي النصف الآخر للمجتمع، وهي المدرسة التي إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأخلاق، وأشار الشيخ عبدالرحمن آل رقيب إلى أن الجمعية بالمنطقة الشرقية تولي المرأة جانباً كبيراً من الاهتمام، فهي النبع الصافي لأبنائها ذكوراً وإناثاً، فيقام لها الكثير من البرامج التي ترتقي بها فكرياً وتوعوياً ودينياً ودنيوياً؛ لكي تكون الحصن الحصين لأبنائها، وتشرف على التربية بنفسها لتصنع مستقبلاً مزهراً لهم.
التركيز على القرآن
ويشير رئيس الجمعية بمنطقة عسير الشيخ محمد بن محمد البشري إلى أنه منذ أن بدأت هذه الشجرة الخبيثة بالظهور، والجمعية أول من حاربها، ووأدها في مهدها، من أجل ألا تتغلغل في أذهان أبنائنا من أهل القرآن، لقد قمنا بحملة ميدانية على الحلقات لتوعيتها بهذا الخطر، وكذلك قمنا بإصدار نشرة تعريفية وتحذيرية من الإرهاب وخطره، والعوامل التي قد تساعد فيه، ونشرناها بين الحلقات، وبين الدارسين والدارسات في الجمعية، ومازلنا نحذر أبناءنا وبناتنا من الأفكار الغالية والمتطرفة، ونوجههم بالتركيز على القرآن الكريم وتعليمه فقط دون غيره؛ لينشأ أبناؤنا على كتاب الله عز وجل ويتربوا عليه، وينهلوا من خيره.
المحاضن الآمنة
ويؤكد رئيس الجمعية بمنطقة الحدود الشمالية الشيخ عواد بن سبتي العنزي أن جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في المملكة مفخرة من مفاخر الدنيا التي يرجو المؤمن نيل بركتها على الفرد والمجتمع. وقد تكون سبباً لرضا الله تعالى وحفظه، وهذه الجمعيات يعتبرها عامة الناس محاضن آمنة لأبنائهم؛ ولذلك تجدها في ازدياد، والإقبال عليها كثيف، وهذا مؤشر مهم في التعامل معها، يضاف إلى ذلك أنها صامدة في وجه الفتن، ولم يستطع دعاة الانحراف الفكري السيطرة عليها بحمد الله، وهذا يوجب على القائمين عليها مزيداً من الحرص والبذل والعطاء والتضحية؛ لتبقى هذا الحلقات رياضاً غناء، وحدائق فيحاء، وثماراً متدفقة العطاء تروي ظمأ المشتاق إلى حفظ وقراءة كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
ويذكر الشيخ عواد العنزي أبرز البرامج التي يجب العناية بها لترسيخ الوسطية والاعتدال، وتحصين الفكر لدى منتسبي الحلقات، وهي:
أولاً: التركيز على تعلم القرآن، وربط النشء به، وأخذه كما أخذه سلف هذه الأمة الصالح علماً وعملاً.
ثانياً: البعد عن الغلو المذموم، والحث على فهم وسطية الإسلام التي بينها القرآن الكريم.
ثالثاً: اختيار الأكفياء من المعلمين والموجهين الذين عرفوا بسلامة العقيدة، وصفاء المنهج، وإبعاد من تلطخ بالفتن والأفكار المتطرفة التي نهايتها الضلال في الدنيا والآخرة.
رابعاً: المتابعة المستمرة للطلاب لحل الإشكالات عندهم، خاصة فيما يتعلق بالمشتبه من القرآن، أو الشبه التي يستدل بها المخالف، ولكن دون توسيع هذه الدائرة، بل تبقى للحالات الفردية مع من يظهر منه هذا السلوك.
خامساً: غرس القيم الإسلامية العالية التي جاء بها الدين من الصدق والعدل والأمانة، وعدم الغدر، والإخلاص ونحوها، فمن تربى عليها رفض ضدها، وتحلى بمكارم هذا الدين الذي لا يدعو إلا لخير.
سادساً: الحذر من كثرة البرامج والأنشطة التي تأخذ وقت الطالب، وتتعلق نفسه بها، فهذا من أكبر ما يصرف الطلاب عن الحفظ. والنفوس مجبولة على اتباع شهواتها، وفي هذا فتح لولوج أهل الشبه وصرف الشباب عن الوسطية والاعتدال.
سابعاً: تخصيص دورات علمية وتدريبية لمعلمي القرآن في أوقات الإجازات أو في أوقات لا تزاحم وقت الحلقات، أو تتعارض معه لتطوير مهارات معلمي القرآن وغرس القيم النبيلة فيهم، والتأكيد على وسطية الإسلام، ومنهج القرآن الكريم في التعامل مع النفس والغير.
صمام الأمان
وأوضح رئيس الجمعية بالطائف الدكتور أحمد بن موسى السهلي أن الحقيقة المعلومة لكل منصف أن حلقات تحفيظ القرآن الكريم، ومدارسه هي صمام الأمان -بإذن الله تعالى- من انحراف الشباب عن جادة الصواب والحق. لقد أثبتت الدراسات الأمنية أن إشغال أوقات الشباب بما هو نافع ومفيد وخاصة حفظ القرآن الكريم هو السبيل الأمثل لمكافحة الجريمة، والحد من انتشارها في هذه الأزمان، وأن هذا الأمر جعل المسؤولين في هذه البلاد يصدرون توصياتهم بشأن فتح حلقة لتحفيظ القرآن الكريم في كل مسجد، وتبنت ذلك مشكورة وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، فعممته على الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم.
وذكر الدكتور السهلي أن زيارة واحدة لإحدى الحلق أو المدارس القرآنية تبين بجلاء تام الصورة الناصعة النقية للمتعلمين والدارسين الحريصين على تعلم كتاب ربهم وحفظه، والعمل به المتخلقين بأخلاقه والمتحلين بآدابه. كما أن استعراضاً سريعاً لكل من وقع في براثن الإرهاب، وتشبع بالأفكار المنحرفة يدلنا على أنهم ما تعلموا كتاب الله تعالى بشكل صحيح وفق المنهج السليم الذي قامت عليه هذه البلاد المباركة منذ نشأتها، وسارت عليه الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم والتزمت به، ولا شك أن أهل القرآن هم أعرف الناس بالحق من الباطل، وبالهدى من الضلال، وبالسنة من البدعة، وبالفاضل عن المفضول، وهم منارات هدى ورشاد لغيرهم ممن يسترشد بهم، ويتعلم منهم، وهم أحرص الناس على ما فيه صلاح الناس ونفعهم، وإذا علمنا ذلك، فإن جمعيات تحفيظ القرآن هي الساعد الأيمن لمؤسساتنا التربوية في هذه البلاد المباركة لمحاربة الإرهاب، والدعوة إلى الوسطية، ومحاربة الغلو والتطرف.
تميز حفظة القرآن
ويستهل رئيس الجمعية بوادي لية بمحافظة الطائف الشيخ عيضة بن علي العوفي، قوله في هذا الشأن، بالحديث الذي يرويه عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القران وعلمه». وإنه من خلال التأمل في أدلة النقل الشرعي، وشواهد النظر العقلي، ندرك جوامع الكلم في هذا الحديث النبوي الشريف، ونرى قارئ القرآن يفوق غيره ذكاء، ويزيد عنهم نباهة، ويمتاز خلقاً وأدباً. وهذا ليس بغريب على من قضى وقته في حلقات التحفيظ، يتأدب بآداب العلم، ويتخلق بأخلاق القرآن، وأنه بفضل من الله - تعالى - تخرج في جمعية تحفيظ القرآن الكريم بوادي لية خلال سنوات عملها عدد كبير من حفظة كتاب الله، يشهد لهم المجتمع بالتميز والنجاح في حياتهم العملية، وعلاقاتهم الاجتماعية، فمنهم الطبيب، والمهندس، والأستاذ الجامعي، والمعلم وغيرها، يحققون أعلى درجات التميز وأفضل الإنجازات «وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء»، وذكر العوفي أن، رسالة الجمعية بالإضافة إلى الجانب التعليمي تظهر في بذل الجهد في توعية وتحصين الشباب والفتيات، وتعزيز الفكر الوسطي المعتدل عن طريق الدورات التربوية، والبرامج الموسمية للقائمين على أعمال الجمعية، والتي تؤهلهم إلى إبراز قيمة الأمن والوحدة، وتماسك المجتمع، وتأكيد مبدأ المرجعية للعلماء الثقات والإجابة على الإشكالات العامة والشبه التي يتكئ عليها أهل الانحراف والتشدد.
ويؤكد الشيخ العوفي على أن علاقة النشء بالقرآن الكريم، ومشاركتهم في حلقات التحفيظ تضمن جيلاً صالحاً متوازناً، بإذن الله تعالى بعيداً عن مزالق الضلال، والتكفير، والجهل، والعناد. فالطالب في حلقات تحفيظ القرآن الكريم يتعلم أدب احترام العلماء، وأخلاق التعامل، ويتأدب بآداب القرآن. وقد أجابت عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان خلقه القرآن». وأنى لطالب يتعلم صغيراً قوله - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }، ثم لا يمتلئ قلبه حباً لمجتمعه، ورغبة في خدمته وتطوره، متخذاً رسول الله، صلى الله عليه وسلم قدوته إتباعاً وخلقاً وسلوكاً.