الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
قال معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد المستشار بالديوان الملكي عضو هيئة كبار العلماء إمام وخطيب المسجد الحرام : إن الأمن الاجتماعي هو الطمأنينة التي يرتفع معها الخوف والفزع عن الإنسان، فرداً أو جماعة، ومفهوم الأمن الاجتماعي في الإسلام يستوعب الشأن المادي والمعنوي فهو حق للجميع أفرادا وجماعات، مسلمين وغير مسلمين، محتويا على مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة:حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض المطلوب شرعا المحافظة عليها. وقد جاء دين الإسلام محققاً مقاصد عظيمة يجب أن يتعلمها كلّ مسلمٍ ومسلمة، هي حفظ الضرورات الخمس المذكورة آنفا، وما فتئ العلماء يبنون الأحكام والمسائل المرتبطة بهذه المقاصد العظيمة، فلّما ضعف العلم وقل الوازع وغلب الهوى والجهل وبرزت الشبهات وكثرت الشهوات، ظهرت الفتن والهرج والقتل، دون مراعاة لهذه المقاصد، ومن أجل ذلك فإنّ كلَّ عملٍ تخريبي يستهدف الآمنين في جميع جوانب حياتهم مخالف لأحكام شريعة ربّ العالمين، والتي جاءت بعصمة دماء المسلمين والمعاهدين.
مقومات الأمن
وقال معاليه في حديث له بعنوان: (الأمن الاجتماعي في الإسلام مقوماته وآليات تحقيقه) إن شرعية الأمن في الإسلام تأتي من قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}( البقرة:208). وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)، وإن أهمية الأمن الاجتماعي قد تجاوزت الحق لتجعله واجباً شرعياً، وضرورة من ضرورات استقامة العمران، وإقامة مقومات الأمن الاجتماعي الأساسي لإقامة الدين، فرتبت على صلاح الدنيا بالأمن صلاح الدين، وليس العكس كما قد يحسب الكثيرون، فالقرآن الكريم قد أعطى هذا الجانب اهتماماً كبيراً، لما له من أثر في توطين النفس البشرية على الرضا والاستسلام، والترقب والاهتمام، وفق منطلق عقدي، جعل له الإسلام قاعدة متينة يرتكز عليها، وسنداً قوياً يدعمه، لتشد بذلك جوانب النفس حتى لا تنحرف أو تزيغ، فالإعداد الذي أمر به الله سبحانه وتعالى المسلمين في القرآن الكريم والسنة النبوية يسع جميع الجوانب الفكرية والعسكرية والاجتماعية والسياسية التي توفر الأمن للجميع، وما القوة التي طالبنا بها الإسلام إلا القدرة التي تحفظ الحق وتصون العهد وترد الظالم وتنصر المظلوم، فبقاء الأفراد والمجتمعات والأمم ونماؤها قوامه الأمن الاجتماعي الذي يقوم على الأمانة والعدل والتحرر من الخوف، فالأمانة لا تقتصر على أداء حقوق الآخرين من مال بل أداء ما علينا من التزامات بنزاهة وصدق وهو ما يتجلى في قوله كما في السنن: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ) ، فبالأمن صلاح الأمة ونهضتها.
وشدد معاليه على أن الأمن الاجتماعي مسؤولية اجتماعية تقع على عاتق جميع أفراد المجتمع وعلى رأسها الجهات الحكومية والمؤسسات المدنية والنخب المتخصصة والمسئولة ، فلا يهنأ لإنسانٍ عيش وهو مهدد في ماله أو نفسه أو عرضه، فجعل الإسلام منزلة من يطعم الطعام الجنة، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}.وفي الوقت نفسه حذر الإسلام من الاعتداء على ممتلكات الآخرين قال تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، وأنزل العقوبات على المعتدين ونوعها حسب نوع الاعتداء. قال تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.
الأمن الاجتماعي
وبين معالي الدكتور صالح بن حميد أن الإسلام أمن غير المسلم في الدولة الإسلامية، فالأمن مطلب للإنسان الذي كرمه الله، وهو نعمة تعم الناس جميعاً في المجتمع المسلم. فأحكام الإسلام المنزلة من الله تعالى، والمبينة بسنة رسوله، تدل على أن أمن غير المسلم - الذي يعيش في المجتمع المسلم - على نفسه وماله وعرضه مضمون ما دام ملتزماً بما تقضي به تلك الأحكام لا يُمس إلا بحق. وهي أحكام واضحة أوجبها الإسلام، ولم توجبها المصالح المتبادلة بين المسلمين وغير المسلمين، ولم تلزمنا بها قواعد القانون الدولي، أو المعاهدات بين الدول الإسلامية وغيرها، لأن هذه الأحكام جانب مهم من شريعة الإسلام الكاملة، يجب على الدولة الإسلامية تطبيقه والعمل به، فهو واجب ديني، قبل أن يكون مصلحة سياسية أو التزاماً دولياً، مؤكداً معاليه أن الإسلام يقيم مجتمعاً إنسانياً راقياً، تحكمه شريعة الإسلام، وهو لذلك يقيم العلاقة بين الناس جميعاً على أسس وطيدة من العدل والبر والرحمة، وأوضح معاليه أن هناك مقومات لتعزيز الأمن الاجتماعي منها:
أولاً: التماسك بين أفراد المجتمع: الانتماء إلى وطن ومجتمع واحد، فالأمن الاجتماعي بما يقدمه للمواطن من أسباب الطمأنينة والرفاهية يتطلب من هذا المواطن اسهاما فعالاً في تحقيقه انطلاقاً من شعور راسخ لديه بأن ما ينعم به غيره من الخير إنما ينعم به هو أيضاً، وإن ما يصيب غيره من شر يرتد عليه أيضاً، والألفة الجامعة هي العامل الجامع من أفراد المجتمع الواحد.
ثانياً: غرس الثوابت الدينية الصحيحة لينمو المجتمع على أساس من مبدأ الوسطية والاعتدال استناداً إلى المنهج القرآني وهو سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات ويتجه إليها في التربية والتشريع حيث يقيم بناءه كله على التوازن والاعتدال.
ثالثا: التعاطف بين أبناء الوطن الواحد ومنطلقاً من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (المؤمن ألف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وخير الناس أنفعهم للناس) اعتبر الماوردي - كما في آداب الدنيا والدين -ـ الألفة الجامعة شرطاً من شروط ثلاثة يصلح بها حال الإنسان وهي نفس مطيعة إلى رشدها، وألفة جامعة ومادة كافية، فالألفة الجامعة برأيه واجبة « لأن الإنسان مقصود بالأذية محسود بالنعمة وإذا كان ألفاً مألوفاً انتصر بالألفة على أعاديه وامتنع من حاسديه فسلمت نعمته منهم وصفت مدته عنهم وإن كان صفو الزمان عسراً وسلمه خطراً».
وقد ذكر القرآن الكريم في كثير من الآيات الكريمة بالرحمة والأخوة ابتداء من الرحمة بين الزوجين حيث جعل الله بينهما مودة ورحمة بين المهاجرين والأنصار التي إذ كانوا رحماء بينهم وبين المؤمنين الذين تواصلوا بالرحمة وكانوا أولياء بعضهم لبعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وكذا في السنة النبوية من ذلك قول الرسول - عليه أفضل الصلاة والسلام - كما في الصحيح: (مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عضو تتداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى) وهذا خير تعبير عن وحدة المجتمع بوحدة أفراده الروحية فالرابطة بين الأخوة تكون باجتماعهم حول مفاهيم واحدة وما تمليه من مبادئ سلوكية فيسود التعاطف بينهم وتسود الرحمة وكلاهما ضروري لحياة اجتماعية آمنة ومطمئنة إلى حاضرها ومستقبلها ميثاقها التعاون ورابطتها المودة والرحمة.
يقول الغزالي - رحمه الله - في إحياء علوم الدين « وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية بالغذاء فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم، وشدد الإمام الغزالي على الأخوة الرابطة بين الناس فيسببها لعقد الزواج ويبين لها حقوقاً ثمانية هي:
أولاها في المال وثانيها الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات والقيام قبل السؤال ويقدمها على الحاجات الخاصة، أما ثالثهما في اللسان بالسكوت مرة وبالنطق مرة أخرى. والحق الرابع على اللسان بالنطق، فالأخوة كما تقص بالسكوت عن المكاره. والحق الخامس: العفو عن الزلات والهفوات. والحق السادس: الدعاء للأخ في حياته وبعد مماته وكل ما يحبه لنفسه وأهله. والحق السابع: الوفاء والإخلاص. والحق الثامن: التخفيف وترك التكليف والتكلف فالأخوة شعور بالتعاطف».
رابعاً: قوة أجهزة الأمن، فهي العين الساهرة لتأمين والطمأنينة والنمو والازدهار في الميادين الثقافية والاقتصادية والاجتماعية.
خامساً: قيام المؤسسات التربوية بمسؤوليتها وهي التي توجه الإنسان وتساعده على التعلم على الحياة الاجتماعية وتنفيذ سياسة التربية كعامل من عوامل الوقاية من الجريمة والانحراف.
سادساً: القدرة على تجاوز الصعاب وحل المشكلات ودور المؤسسات الاجتماعية التي تولي مسؤولية الحالات الاجتماعية عنايتها واهتمامها من أجل معالجة الحالات الاجتماعية المرضية في البيئة الاجتماعية ومعالجتها.
سابعاً: قوة الجهاز القضائي القادر والعادل على تطبيق القوانين والأنظمة التشريعية.
ثامناً: وجود المؤسسات العقابية والإصلاحية الصالحة ويقصد بها إعادة تأهيل المحكوم عليهم مهنياً واجتماعياً.
تاسعاً: شيوع روح التسامح تجاه من صلح من المنحرفين أي تهيئة المجتمع لتعين من صلح من المذنبين ولإفساح المجال أمامه لينحصر مجدداً ضمنه.
عاشراً: وجود دعم المؤسسات الاجتماعية والجمعيات الخيرية التي تصرف وقتاً وجهداً في سبيل تأمين المؤسسات والخدمات الاجتماعية لتقوم على إقامة التعاون والعروة الوثقى بين أفراد شعب واحد تشدهم إلى بعضهم بعضاً فيشد كالبنيان ويصمد في وجه الرياح التي يمكن أن تعصف به.
آليات تحقيق الأمن
وقال معالي خطيب المسجد الحرام: إن آليات تحقيق الأمن الاجتماعي في الإسلام تتركز في الآتي:
الأولى : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المجتمع الإسلامي؛ مجتمعٌ يصلح نفسه بصورة ذاتية من خلال منظومة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مجتمع حي متغيّر ومؤشرات التغيير تُشير دائماً إلى الأفضل. فأي مظهر سلبي سيُقابل بمواجهة شاملة من قبل أبناء المجتمع بأسره، فهناك دفع باتجاهين اتجاه نحو إصلاح الخلل وهو النهي عن المنكر واتجاه نحو إشاعة المعروف وهو الأمر بالمعروف، وهذا يعني ان حركة المجتمع هي نحو الأمام أخذاً بالمحاسن ونبذاً للمساوئ. وآلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرمن أهم الوسائل التي تحصن المجتمع ضد الانحراف والجريمة لأنها تخلق رأياً عاماً، وهذا الرأي العام سيُنمي الأجواء الإيجابية في المجتمع، ويقلع الأجواء السلبية. فإنه في سبيل تهذيب الأفراد أوجب أن يكون هنالك رأي عام مهذب ملائم يحث على الخير وينهى عن الشر، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإن الرأي العام له رقابة نفسية تجعل كل شرير ينطوي على نفسه فلا يظهر، وكل خير يجد الشجاعة في إعلان خيره.
الثانية: القضاء والحدود: العقاب العادل هو الوسيلة الفعالة التي تردع من شب على الجريمة ولا سبيل لإصلاحه إلا بمعاقبته العقاب الذي يستحقه، ولهذا اهتم الإسلام بالقضاء وأعطيت هذه المهمة إلى الحاكم، فهو المسؤول عن القضاء فقد كان الخلفاء الراشدون هم الذين يفصلون في القضايا إضافة إلى وظيفتهم الأساسية في إدارة الدولة، وذلك لحساسية هذه المهمة لأنها تتعلق بتثبيت الحق من خلال معاقبة المسيء والإحسان إلى المحسن. وقد وضع الإسلام حدوداً لمواجهة الأشرار رأفة منه بالمجتمع الذي تهدده الجريمة إذا لم يُستخدم أساليب الرد. ويأتي دور القضاء بعد استنفاد كل الوسائل والطرق في مكافحة الجريمة، بعد استنفاد وسيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعجز المجتمع عن استئصال الجريمة بالطرق السلمية، فكان لابد من اللجوء إلى آخر الدواء وهو القضاء ليحكم القاضي بحكم الله ويصدر حكماً رادعاً يرتدع منه المنحرف ويمنعه عن مواصلة انحرافه، ويمنع من تسول له نفسه العبث بأمن الناس وأمن المجتمع. إذاً الأمن الاجتماعي بحاجة أحيانا إلى العصا الغليظة أيضاً كما هو بحاجة إلى الكلمة الطيبة، فلولا الصرامة التي تواجه بها اللصوص لواصلوا تطاولهم على أموال الناس وممتلكاتهم، ولكي تصبح القوة إشارة رادعة تمنع الآخرين من ممارسة اللصوصية. وهكذا نجد أن مساحة الأمن الاجتماعي هي مساحة كبيرة تشملُ مختلف الأساليب والطرق والآليات فكل ما يؤثر في الأمن يؤخذ بنظر الاعتبار عند المخططين للأمن الاجتماعي. وتقوم بمساعدة القضاء أجهزة أمنية تسهر على راحة المواطنين فهي تؤدي دوراً كبيراً هي العين الحارسة على مصالح الناس وأرواحهم وهي تنشط عندما تجد ثغرة أو انحرافاً فتُسارع في التدخل واتخاذ الإجراء اللازم ويُشكل وجود هذه الأجهزة قوة رد تمنع الأشرار من العبث بمقدرات الناس. وتقوم الدول بتطوير أجهزتها الأمنية وتمنحها صلاحيات واسعة في إقرار الأمن.