د.عيد بن مسعود الجهني
يشهد عالم اليوم حقائق سياسية واقتصادية وإستراتيجية مثيرة في منظومة العلاقات الدولية، وقد برز دور الزعماء والقادة ليترك بصماته واضحة على العلاقات الثنائية والدولية على نحو لم يتوفر في أي مرحلة من المراحل التاريخية السابقة، وقد تبلورت تلك الحقائق بعد نهاية الحرب الباردة التي كانت من أهم العلامات التي تميز تاريخ العلاقات السياسية المعاصرة وأبرزها.
فالدول هي الفاعل الأساسي في العلاقات الدولية، وهناك قضايا أساسية تحكم العلاقات الدولية المعاصرة والسياسات الخارجية للدول، وما يمر به النظام الدولي الجديد من تطورات وتعقيدات وتحولات جوهرية في علاقات الدول الثنائية، وفي علاقات الدول الكبرى ذات النفوذ المؤثر في العالم.. وهذا تحت وطأة تأثير حقائق وقضايا عديدة منها ما هو سياسي وعسكري وأمني، ومنها ما هو اقتصادي وثقافي وغيرها من القضايا.
ولعل ساسة الدول وقادتها في ظل علاقات هذا العصر المليء بالتناقضات والمتغيرات والصراعات يركزون على قضايا منها الأمن العسكري كقضية تشغل بالهم وتفكيرهم على الدوام، ذلك أن القوة العسكرية بعد الله هي التي تحمي السيادة والأمن والمصالح والمكتسبات وأهداف الدولة.
وتأتي قضية أخرى هامة في مجال العلاقات بين الدول تلك التي تعنى بقضايا السلام في مواجهة الصراعات بين الدول.. انطلاقاً من أن السلام يعني الأمن والاستقرار للعالم أجمع، ومن هنا أصبحت العلاقات الدولية التي تتبادلها الدول فيما بينها من أهم مظاهر الحياة الدولية في عالمنا المعاصر.
والمتتبع لتطور العلاقات والإستراتيجيات الدولية، يجد أن قادة الدول وكبار موجهي ومخططي السياسة فيها يحرصون على علاقاتهم السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية.. إلخ بجانب دعم السلم والعدل الدوليين والأمن والاستقرار في العالم.
ولا شك أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز- حفظه الله- في خطابه التاريخي قد أوضح بجلاء سياسة بلاد الحرمين الشريفين الخارجية التي تقوم على تعاليم الشريعة الغراء، الداعية للمحبة والعدل والسلام والالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات والمواثيق الدولية، في علاقات المملكة مع دول المنظومة الدولية.
ولأن المملكة ترفض التدخل في شئون الدول الأخرى فهي ترفض رفضا قاطعا التدخل في شئونها الداخلية واحترام سيادتها التي يأتي في مقدمتها، يقول خادم الحرمين الشريفين:
((إن سياسة المملكة الخارجية ملتزمة على الدوام بتعاليم ديننا الحنيف الداعية للمحبة والسلام، وفقا لجملة من المبادىء أهمها استمرار المملكة في الالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات والمواثيق الدولية، بما في ذلك احترام مبدأ السيادة، ورفض أي محاولة للتدخل في شئوننا الداخلية)).
وعلى الجانب الآخر فإن المملكة منذ تأسيسها على يد المؤسس الملك عبد العزيز- رحمه الله- فإن سياستها الخارجية تقوم على الدفاع عن جميع القضايا العربية والإسلامية في كل المحافل الدولية وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة التي تعتبر المملكة إحدى الدول المؤسسة لها (51) دولة في عام 1945، ليصبح عدد دول المنظمة اليوم (193) دولة.
وفي مقدمة تلك القضايا أن يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وهذه سياسة ثابتة للمملكة منذ عهد الملك عبد العزيز- رحمه الله- الذي كان له لقاء تاريخي مع الرئيس الأمريكي روزفلت في 14 فبراير 1945 على ظهر الطراد (كوينسي) عند مدخل قناة السويس، وقد قال الرئيس روزفلت بعد الاجتماع (بأن ما عرفته عن فلسطين والشرق الأدنى في محادثاتي مع ابن سعود لمدة خمس دقائق أكثر مما عرفته من تبادل عشرات الرسائل) وأردف روزفلت قائلا: (بين جميع الأشخاص الذين تحدثت معهم في حياتي ما وجدت واحدا حصلت منه مثل ما حصلت من هذا الملك العربي).
واستمر موقف المملكة تجاه قضية العرب الأولى منذ ذلك التاريخ 1945م مرورا بالتقسيم عام 1947، وتأسيس إسرائيل عام 1948 التي اعترفت بها الإدارة الأمريكية بعد (11) دقيقة من إعلان تأسيسها على أرض العرب وحتى أوسلو ومدريد وما تلاهما من مبادرات لإيجاد سلام عادل حتى اليوم وفي مقدمتها مبادرة السلام العربية التي أطلقت في قمة بيروت العربية عام 2002 بإجماع عربي والتي تدعو إسرائيل إلى الانسحاب الكامل من جميع الأراضي المحتلة منذ عام 1967 تنفيذا لقراري مجلس الأمن (42 و338) واللذين عززتهما قرارات مؤتمر مدريد عام 1991 ومبدأ الأرض مقابل السلام وإلى قبولها قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشريف وذلك مقابل قيام الدول العربية بإنشاء علاقات طبيعية في إطار شامل مع إسرائيل وهذا انطلاقا من اقتناع الدول العربية بأن الحل العسكري للنزاع لم يحقق السلام والأمن لأي من الأطراف.
لكن إسرائيل التي قامت على أساس عنصري، وهي دولة مغتصبة قامت على الباطل، كشرت منذ تأسيسها على أرض العرب عن أنياب العدوان وأظهرت الكره والعداوة للعرب والمسلمين، وقد أظهرت الأيام وبرهنت الوقائع والأحداث أن الهدف الحقيقي لقيام إسرائيل هو إثارة المشكلات وتأجيج الصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وتبديد طاقاتها والقضاء على هويتها.
كثيرون هم الذين يعولون على اتفاقيات السلام مع إسرائيل، ولكن متى راعت إسرائيل اتفاقا أو حفظت عهدا، وهاهو نتنياهو المتطرف الذي أعيد انتخابه مؤخرا يتنكر لكل الاتفاقات والمعاهدات السابقة بلا مواربة ولا تردد، وصرح فور إعادة انتخابه انه لن يسمح بقيام دولة فلسطين.
وبتاريخ 14 يونيو 2009م أكد في خطابه إلى الإسرائيليين، ووجهه إلى أوباما والعرب معلنا بوقاحته المعهودة ان الدولة الفلسطينية المرتقبة يجب أن تكون منزوعة السلاح برا وبحرا وجوا لتصبح تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وزاد نتنياهو يجب على الفلسطينيين أن يعترفوا بيهودية الدولة العبرية والقدس عاصمة أبدية لها.
المهم أن هذه التصريحات المتطرفة والنيات الخبيثة لن تبني سلاماً عادلاً ولن تحقق استقرارا ولا أمنا، والدولة الفلسطينية إلى جوار الدولة العبرية ستصبح واقعا لا مفر منه شاء غلاة إسرائيل أم أبوا، والعرب قدموا مبادرتهم للسلام التي هي مبادرة سعودية أصلا تضمن إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس والتطبيع مع إسرائيل، والمجتمع الدولي تفهم هذه الحقيقة وأكد عليها، وما على إسرائيل ومتطرفيها الذين يخططون لمؤامرة كبرى سوى فهم لغة العصر وتوازناته ومعنى السلام، ومفهوم الأمن، وحق البقاء.
على الجانب الآخر الفلسطينيون مازالوا يتناحرون ويقتتلون منذ (أوسلو) على سلطة (وهمية) وكذبة كبرى، ولم يدركوا أن كل ما حدث وجرى وسيجري لا يعدو كونه (تمييعاً) بل (تضييعاً) لقضيتهم التي ظلوا يناضلون من أجلها منذ 1948م، فالاقتتال بينهم قدم لإسرائيل ما لم تحلم به في تاريخها العنصري الأسود، وقدم للصهاينة كل ما يرغبون في تحقيقه على طبق من ذهب ما جعلهم يفرحون ويرقصون طرباً وهم يرون الفلسطيني يقتل أخاه وآخر يتآمر على أخيه من أجل (عظمة) السلطة.
لا شك أن السياسة الخارجية للمملكة تقوم على مبادئ العدل والسلام والأمن والاستقرار للعالم أجمع، وحل الخلافات والنزاعات بالطرق السلمية ورفض استخدام القوة والعنف وأي ممارسات تهدد الأمن والسلم العالميين لكن إسرائيل تعودت أن تلقى كل القوانين والقرارات الدولية وعلى رأسها قرارات الأمم المتحدة ومجلس أمنها المتعلقة بفلسطين والقدس في سلة المهملات.
لكن اليهود منذ أن استولوا على القدس دأبوا على وضع العراقيل أمام المسلمين والمسيحيين لمنعهم من الوصول إلى مقدساتهم بل أنهم سعوا بخبث ومكر، بالحفر حول المسجد الأقصى وتحته حتى يضعف بناؤه ويتهاوى، فيحرموا المسلمين منه إلى الأبد، فقد بدأوا الحفر بحارة المغاربة بعد احتلال القدس الشرقية في شهر 1967م، رغم صدور قرار مجلس الأمن رقم 252 الذي نص على (ان جميع التشريعات والإجراءات الإدارية والتصرفات التي اتخذتها إسرائيل بما في ذلك نزع ملكية الأراضي والممتلكات الكائنة عليها والتي من شأنها تغيير الوضع القانوني للقدس تعتبر باطلة ولا يمكن أن تغير هذا الوضع، ودعا إسرائيل بصورة مستعجلة إلى إلغاء جميع الإجراءات التي اتخذت فعلا والامتناع على الفور عن القيام بأي عمل آخر من شأنه تغيير الوضع في القدس).
وقد كان يوم 21 أغسطس 1969م يوماً أسود في تاريخ القدس وفي تاريخ المسلمين والعرب، ففي ذلك اليوم أقدمت إسرائيل على ارتكاب جريمة بشعة، حيث دبرت محاولة إحراقه، وإحراق قلوب المسلمين معه، كانت أحداث ذلك اليوم الحزين كارثة في حق المسجد الأقصى وكارثة على المسلمين والمسيحيين، وقد أكدت تلك الحادثة مدى عنصرية اليهود وحقدهم، وهي حادثة لن تمحوها الأيام ولن ينساها التاريخ وستظل تؤكد أنه لا أمان لليهود ولا نهاية لأحقادهم وخبثهم ومكائدهم!!
ومواصلة للسياسة التي اتبعتها إسرائيل لتهويد القدس وقطعها عن أصولها الإسلامية العربية جاء مخطط إقامة الجدار العنصري البالغ طوله (730) كيلومترا، ورغم صدور قرار محكمة العدل الدولية القاضي باعتبار الجدار العازل غير قانوني ومطالبتها إسرائيل بإزالة الجدار ودفع تعويضات لكل فلسطيني تضرر من تشييده، إلا أن إسرائيل لم تعبأ بذلك القرار واستمرت في تنفيذ مخططها العنصري الذي به نهبت وصادرت أكثر من 47 في المئة من الأراضي الفلسطينية لصالح بناء ذلك الجدار اللعين، الذي قصدت به ضم الأجزاء الجنوبية من الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وبذا تم فصل القدس عن محيطها العربي وتم عزل حوالي 250 ألفا من المقدسيين داخل مدينتهم القدس وعزل أكثر من 90 قرية فلسطينية يسكنها أكثر من (360) ألف فلسطيني بين الجدار العازل والمستوطنات التي يضمن الجدار ضمها إلى إسرائيل.
والمملكة العربية السعودية قائدة الأمة الإسلامية لها تاريخ طويل ومشرف في الدفاع عن جميع القضايا العربية والإسلامية وفي مقدمتها بالطبع القضية الفلسطينية والقدس الشريف، حتى يتحقق قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف فلا يضيع حق وراءه مطالب، وهذه هي سياسة المملكة دعم قوي لا حدود له لهذه القضية فقدمت المملكة لفلسطين وأهلها أكثر من (120) مليار ريال دعم مستمر، لا يتوقف، ضد العدوان والصلف الإسرائيلي الذي يخالف القوانين والأعراف والشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة التي أنشأت إسرائيل، وقرارات مجلس الأمن وحقوق الإنسان ومحكمة العدل الدولية وغيرها كثير.
وفي خطاب خادم الحرمين الشريفين أكد ذلك سيرا على سياسة والده صقر الجزيرة الملك عبد العزيز وإخوانه الملوك من بعده رحمهم الله قال حفظه الله:
(الدفاع المتواصل عن القضايا العربية والإسلامية في المحافل الدولية بشتى الوسائل، وفي مقدمة ذلك تحقيق ما سعت وتسعى إليه المملكة دائما من أن يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة، وإقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف).