على الرغم من تطور وازدهار قطاع النقل الجوي عالمياً وتسجيله نسب نمو عالية فضلاً عن تقديمه خدمات مميزة وعالية الجودة فإن قطاع النقل الجوي في المملكة ظل لسنوات طويلة يترنح عند مستويات متدنية وانعكس ذلك على الخدمات الأخرى المكونة لهذا القطاع كالشحن الجوي ووكلاء السفر والسياحة وغيرها من الخدمات.
وإذا ما حاولنا فهم هذا التراجع فإننا سنلحظ بوضوح أن السبب الرئيس يعود إلى ضعف التشريعات القانونية الخاصة بهذا القطاع فلم تكن الجدوى الاقتصادية أو الموقع الجغرافي رغم أهميتها معوقين في التطور والازدهار وخير دليل على ذلك بروز وتطور شركات الطيران في الدول المجاورة بشكل لافت حتى أضحت هذه الشركات لاعباً دولياً قوياً يحسب له ألف حساب ليس على المستوى الإقليمي فحسب، بل على المستوى الدولي أيضاً ولم يعق كونها مملوكة من دولها من أن تدار بكفاءة عالية، ومن هذا المنطلق يمكن القول إن من المعوقات التي أدت إلى تراجع قطاع النقل الجوي السعودي وأسباب تراجع الناقل الوطني بشكل خاص ضعف التشريعات التي تحمي البيئة التنافسية لهذا القطاع وهو العامل الأساسي والمهم لأي تطور وأن السبب الأول في ضعف هذه البيئة يعود لعقد الامتياز الممنوح للناقل الوطني والسبب الثاني استثناء هذا الناقل الجوي من أحكام نظام المنافسة.
هذا النوع من الدعم غير المحدود والحضانة المستمرة تؤدي بلا شك إلى ترهل عام في الأداء وضعف عام بالشعور بالمسؤولية والقدرة بالتالي على التنافس وقد اتضح ذلك من خلال الأزمة الحالية بين شركات الطيران الأمريكية والأوروبية من جهة وشركات الطيران الخليجية من حيث إن التركيز في الغالب على شركات الطيران الثلاث الأخرى، حيث حضورهم الفعَّال والمتميز وفي رؤى الشركات الغربية أن الشركات الخليجية تخص بدعم حكومي يتنافى مع قوانين المنافسة والتي كانت أساساً في إرساء قوانين الأجواء المفتوحة.
إن العلاقات الدولية الخاصة بالطيران المدني تتجه وبحزم إلى وقف الدعم الحكومي حتى يتسنى لقوانين السوق أن تحكم حريات هذه الصناعة، وأخشى ما أخشاه أن تتأثر مصالح الناقل الوطني إذا ما طبّقت هذه الضوابط بحذافيرها.
1 - عقد الامتياز التجاري الممنوح للناقل الوطني
تعد الامتيازات التجارية من وجهة نظر القانونيين أدوات احتكارية إلا أنهم أجازوها للمصلحة العامة وبذلك يعدونها من الاحتكارات المشروعة التي تلجأ إليها الحكومات لتحقيق غرض محدد في وقت معين «انظر مقالنا الاحتكار المشروع والاحتكار الممنوع - مجلة تجارة الرياض - العدد رقم 623»، ويعتبر الامتياز التجاري استثناء من القاعدة العامة وهي تجريم الاحتكار ومحاربته وعليه فإن هذا الاستثناء من القاعدة العامة يجب أن يكون منضبطاً بضوابط المصلحة وهي المتمثلة بعنصري حماية المستهلك وحماية قواعد المنافسة المشروعة فإذا تخلف أحد هذين العنصرين فإن هذا الامتياز يعد شكلاً من أشكال الاحتكار الممنوع الذي يجب التصدي له.
ويجادل البعض في أن الامتياز الممنوح للخطوط الجوية السعودية قد ألغي منذ السماح والترخيص لبعض الناقلين المحليين بالعمل في السوق إلا أن هذا الإلغاء لا يعدو كونه شكلياً، إذ إن مفاعليه وآثاره ما زالت تعمل، بل ومنتجة في السوق ومن أبرز تلك المفاعيل والآثار تدني عامل التنافسية في جميع مكونات القطاع من النقل الجوي إلى خدمات الشحن الجوي ووكلاء السفر والسياحة، حيث ما زال الناقل المهيمن على السوق متصرفاً فيه بما يحوزه من حصة.
وإذا ما نظرنا إلى مدى رضا المستهلك عن القطاع بشكل عام وعن الناقل الوطني بشكل خاص فإنها مخيبة للآمال، أما سلامة قواعد السوق فقد تعرضت أكثر من مرة للاستهداف؛ فعلى سبيل المثال تعد قاعدة العرض والطلب من القواعد الأساسية في المنافسة المشروعة وقد استهدفت غير مرة بعدم توفير المعرض اللازم لكافة المحطات، كما أن الغرامات المفروضة عند تغيير مواعيد الرحلات تتنافى مع أبسط قواعد السوق وهي حق المستهلك في إعادة المبيع أو استبداله.
2 - استثناء الناقل الجوي الوطني من أحكام نظام المنافسة
يكثر التساؤل عن نظام المنافسة مفهومه ودوره ونطاق تطبيقه ويمكن القول ببساطة إنه إعادة صياغة قواعد وأخلاقيات السوق المعروفة لدى العاملين فيه وفق القواعد القانونية الموصوفة بالعمومية والتجرد والمصحوبة بالجزاء.
وإذا كان دور النظام هو ضبط سلوكيات السوق من قبل الدولة بالجزاء المناسب لحماية مصالح معينة دائماً ما ترتبط بالمستهلك وحماية قيم السوق العادلة وأهمها تساوي الحصول على الفرص للجميع فإن نطاق تطبيقه هو المنشآت العاملة في سوق المملكة أو المؤثرة فيه ويستثنى من ذلك المنشآت المملوكة بالكامل للدولة وخير مثال على هذا الاستثناء الخطوط الجوية السعودية.
وينظر المشرع في نظام المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية إلى هيمنة الشركات الخاصة على سوق أي سلعة أو خدمة بكثير من الريبة والشك لأن في استغلالها تداعيات خطيرة على مجمل الاقتصاد الوطني وعلى المنافسين الآخرين في السوق لذلك يعمل من خلال النظام على وضع مثل هذه الحالات موضع المراقبة الدائمة كما يمنع لهذه الغاية عمليات الاستحواذ والاندماج المؤدية لاستحواذ نسبة (40%) أو أكثر من سوق السلعة أو الخدمة (انظر مقالنا الهيمنة على السوق والتركز الاقتصادي مجلة تجارة الرياض العدد 624).
وقد تكون هذه الهيمنة أو السيطرة على السوق بقدرات ذاتية كما هو حال كثير من المنشآت القيادية في معظم القطاعات ومع ذلك تبقى مثار شك وريبة فكيف إذا كانت نتاج قصور البيئة التشريعية كما هو الحال في سيطرة الخطوط السعودية على قطاع النقل الجوي.
خلاصة القول: تبقى المنافسة في أي سوق هي المحرك الذاتي لديمومته وازدهاره بينما انعدامها سيؤدي حتماً إلى الجمود وبروز اختلالات جسيمة في هيكله وهذا ما حدث بالفعل في قطاع النقل الجوي السعودي، حيث ظلت الخطوط الجوية السعودية لسنوات طويلة المتحكم الرئيس في هذا القطاع مما أفقده أهم عوامل تطوره وهي التنافسية وأصبحت جزءاً معوقاً بدل أن تكون مساهماً فاعلاً في حل مشاكله وخصوصاً أن القطاع يعد من القطاعات الحيوية وليس بحاجة إلى راعي حكومي يسنده ولنا في خطوط الدول المجاورة خير برهان، وأنه من الصعب فهم استثناء الشركات المملوكة بالكامل للدولة من أحكام نظام المنافسة فكيف يكون مقبولاً استثناء منشأة أو منشآت من أحكام النظام مع بقاء آخرين في السوق ذاته محكومون به.
من جانب آخر تشعر كثير من الشركات الحكومية بحاجتها الماسة إلى الحماية الحكومية حتى ولو كانت مضرة بمجمل الاقتصاد الوطني وما اعتمادها على هذه الحماية لسنوات طويلة إلا دليل على عدم نجاحها وقد حان الوقت لاستبدال هذه الحماية بإعمال مبدأ التنافسية في السوق.
فهد بن نوار العتيبي - المحامي والمستشار القانوني - متخصص أكاديمي في أنظمة المنافسة