د. عبدالله بن معمر
كثيراً ما نسمع في وسائل الإعلام عن مخاطر البطالة وعن إحصائيات وسياسات وزارة العمل حول «إصلاح سوق العمل السعودي». هذه الجهود وهذا الإنجاز المحسوب للوزارة، هو مخرج لمهمة دعم توظيف السعوديين في القطاع الخاص إحدى مهام عمل الوزارة. لكن يجب إدراك أن لهذه المهمة «إنجازاً حدياً» أو «إنجازاً صفرياً» لن تستطيع الوزارة تجاوزه بالاستمرار في الدفع نحو توظيف طالبي عمل أكثر مما تستوعبه القدرة التوظيفية للقطاع الخاص الحالي سواء كان في إعدادهم أو في مهنهم.
مع تراكم أعداد طالبي العمل ذوي التأهيل قبل الجامعي و التزايد المستمر لخريجي الجامعات الوطنية والأجنبية، ستقف الوزارة دون إمكانية توظيفهم، بل ومنطق الحال هنا أن دور الوزارة انتهى عند حدود ما يمكن أن يستوعبه القطاع الخاص الحالي من السعوديين.
وبتعبير آخر، دور الوزارة هو دور مؤقت أو محدد يعالج أزمة بطالة هي في طور «النشوء»، ولن تستطيع الوزارة المضي قدماً في وضع الحلول لما بعد هذا الطور من مراحل الأزمة.
إن ما يتم إنفاقه على حافز وصندوق التنمية البشرية والسياسات المتعددة التي اتُّخذت لدعم توظيف السعوديين لن تكون مجدية على المدى المتوسط والبعيد، حيث التزايد المستمر في كم ونوع طالبي العمل مقابل ضعف طاقة القطاع الخاص.
تجاوباً مع سياسات الوزارة، لجأت شرائح عريضة من القطاع الخاص إلى التوظيف غير المهني (الوهمي) للسعوديين، وانخفضت من جراء ذلك عوائدها الربحية، رغبة من هذه الشرائح في التوافق مع السياسات الجديدة للوزارة، لاستمرار بقائها في السوق.
إن محاولة الوزارة تجاوز الـ «الإنجاز الحدي» في مهمة التوظيف بمزيد من السياسات الضاغطة على القطاع الخاص لكي يوظف المزيد من السعوديين، سيكون مصيرها الفشل، وستقود إلى نتائج كارثية على أزمة البطالة من جهة، ومن جهة أخرى على قطاع الأعمال والاقتصاد السعودي بصفة عامة، إذ ستنعكس نتائج هذه السياسات الضاغطة سلباً على المعادلة الربحية للقطاع الخاص مما يُفقد الاقتصاد هذا القطاع إما بخروجه من السوق أو بالهجرة لدول أكثر ملاءمة. ولو أفترض أنه لن يهاجر أو يخرج من السوق أي كيان، فلن تستطيع مفردات هذا القطاع بوضعها الحالي استيعاب كم ونوع القادم من الشباب.
يجب على الوزارة إدراك أنها ليست مسؤولة عما بعد معدل «الإنجاز الحدي» الذي حققته. كما يجب عليها أن لا تغفل عن «التفكير خارج الصندوق Out Box» وأن تدرك حدود مهامها ومسؤولياتها أمام الوزارات الأخرى، فهي في ساحة عمل يقاسمها المسؤولية فيها وزارات (التجارة والصناعة) و(التعليم) و (التخطيط) تجاه خلق بيئة عمل تؤمن وظائف لمعظم فئات المجتمع الجنسية والتأهيلية، وتشبع متطلبات عجلة التنمية.
للوقوف الرقمي على معادلة «الإنجاز الحدي» لتوظيف السعوديين، على وزارة العمل ووزارة التجارة والصناعة إعداد دراسات إحصائية استشرافية بالمشاركة مع وزارة التعليم والتخطيط ومصلحة الإحصاءات العامة حول حجم ونوع طالبي العمل وحجم السوق لسنوات خمسية وعشرية وربع ونصف قرنية، وذلك لوضع تصور عام عن مدى عمق أزمة البطالة الحالية والمستقبلية التي قد تهدد الأمن الوطني السعودي في السنوات القادمة.
مرحلة «الإنجاز ما بعد الحدية» أو «المهمة ما بعد الحدية» التي ستؤمن الوظائف النوعية والكمية للأعداد المتزايدة من الشباب الجامعيين وما دون الجامعيين بمختلف تخصصاتهم الإنسانية والعلمية والهندسية، تتم من خلال «اقتصاد تصنيعي»، ذلك أنه يستحيل على نمط الاقتصاد السعودي الحالي إشباع مطالب هذه الأعداد. أي أن المشروع الإستراتيجي الآني والملح هو خلق بيئة تصنيعية تنتشر من خلالها في ضواحي بلدات - وليست مدن - المملكة آلاف المصانع التقنية والمختلفة حقولاً وقطاعا.
إن ماحققته وزارة العمل من إنجاز هو إنجاز مرحلي لحقبة شارفت على الانتهاء. ويعد هذا الإنجاز حلقة تكتيكية في إطار إستراتيجية أشمل يَفترض هذا الطرح أن تتم صياغتها والعمل على تطبيقها بوعي وإرادة كبيرتين نحو خلق اقتصاد تصنيعي كفيل بتجنيب المملكة مخاطر الاقتصاد الريعي وتقلبات سوق الطاقة في النضوب والابتكار، ويؤمن الاستجابة الملائمة للأعداد المتزايدة من طالبي العمل. أي خلق اقتصاد يستطيع استيعاب مرحلة ما بعد « الإنجاز الحدي» لوزارة العمل.
ليس من المعجزات بناء إستراتيجية بعيدة المدى لمواجهة تهديدات البطالة في دولة مثل السعودية. فلنا أكبر العبر وأنجح النماذج في دول كاليابان وماليزيا وكوريا الجنوبية، وآخرها تركيا القريبة التي استطاعات في أقل من عقد نقل الاقتصاد التركي إلى مصاف الدول المتقدمة من حيث الإنتاج ومعدل إجمالي الناتج المحلي. هذه الدول لم تكن تمتلك من الفوائض المالية ما لدى السعودية، وعلى الرغم من ذلك، حققت معجزات اقتصادية شهدت لها سجلات المنظمات الدولية المتخصصة.
الدواء الإستراتيجي لأزمة البطالة السعودية كما هو معلوم لخبراء الإستراتيجيات السياسية والاقتصادية هو خلق طاقة تصنيعية حديثة في اقتصاد الوطن كصناعات الحاسب الآلي والاتصالات والسيارات والآلات والمعدات والأجهزة المنزلية والحرفية، وذلك من خلال بناء المصانع عالية التقنية، وتأهيل الشباب السعودي في الصناعات التكنولوجية معارف وتطبيقا، ليستطيع الاختراع والتجديد في شتى مجالات الصناعات الوسيطة والاستهلاكية.
كما أشير سابقاً، هذا المشروع الإستراتيجي المقترح يقوم بعبء إنجازه أكثر من مؤسسة حكومية، يتولى قيادته (مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية)، وذلك على النحو التالي :
1- (وزارة التخطيط) تقوم بوضع أطره الهيكلية والأهداف المرحلية والمهام التنفيذية للمؤسسات القائمة على التنفيذ، وتقوم بدور مراقبة وتوجيه وتقييم مراحل التنفيذ. ومن الأهمية بمكان أن يعي (مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية) و (وزارة التخطيط) ملاحظات وتوصيات (شركة التطوير الكورية) عام 2011 التي قدمتها للوزارة.
2- (وزارة التجارة والصناعة) تقوم بعمليات تنفيذ «مصانع إنتاجية» حسب مراحل زمنية محددة من خلال التعاقد مع خبراء من متخصصي أنواع الصناعات المستهدفة إما كأفراد أو شركات شهيرة كـ (أبل ماكنتوش - مايكروسوفت - إتش بي - سامسونغ - وميتسوبيشي- فورد - جنرال موتورز - تويوتا.. إلخ) وتقدم كل سبل التمكين الخدمية والترفيهية لهم. وتتم خصخصة هذه المصانع بعد مضي عقد من عمرها. حينها يكون القطاع الخاص قادراً على المضي قدماً في إدارة هذه المصانع وبناء المزيد منها حسبما تقتضيه حاجات السوق المحلي والعالمي.
3- (وزارة التعليم) تقوم بمهمتين:
المهمة الأولى : إنشاء وإدارة كيانين جديدين في التعليم الجامعي السعودي هما:
* «كليات صناعية» مستقلة بحرم جامعي خاص في جميع الجامعات السعودية (تطوير وظيفي لأقسام الفيزياء والكيمياء والرياضيات والهندسة).
* «مصنع جامعي» لكل «كلية صناعية» على وزن «المستشفيات الجامعية» في كليات الطب، ليكون الأستاذة الجامعيون كأساتذة وكخبراء معمليين في شتى حقول الصناعة جنباً إلى جنب مع الطالب في قاعة الدرس وفي المعمل في حرم جامعي واحد.
يتحقق بناء كل من « الكليات الصناعية» و «المصانع الجامعية» بالتعاقد مع أشهر الكليات العالمية المتخصصة في مجالات التأهيل والتطوير الصناعي.
يلتحق بـ «الكليات الصناعية» خريجو «مدارس المتفوقين الثانوية» التي سيرد ذكرها في الفقرة التالية، ليحصلوا على شهادات الهندسة الصناعية والشهادات الفنية المساعدة في مختلف الصناعات المصنفة. خريجو تلك الكليات يستطيعون من خلال ما اكتسبوا من علم وخبرة إدارة مصانع مكتملة لكل قطاع من قطاعات الصناعة المستهدفة، بدءاً من استخراج عناصر الحديد والألومونيوم وغيرها من العناصر الخام من بيئاتها الطبيعية، وتصنيع الفورمات وإنتاج الآلات والقطع والمكونات التصنيعية الأخرى، حتى مرحلة الإنتاج الاستهلاكي وعمليات إدارة وتشغيل وصيانة وتطوير تلك المصانع.
المهمة الثانية : وهي في غاية الأهمية والأولوية، حيث تقوم وزارة التعليم ببناء «مدارس المتفوقين» لمراحل التعليم العام الثلاث في كل مدينة من المدن السعودية تكون حاضنة لكل طالب يلاحظ نبوغه منذ عامه الأول لدخوله المدرسة، تؤمن لهذه المدارس كل الوسائل الخدمية والترفيهية والتعليمية المساعدة على تيسير إجراءات عملها، ويخصص لهذه المدارس معلمون من نخبة الكفاءات الوطنية المنتخبون بمعايير خاصة لهذا الغرض، وإن شحت مثل هذه النخب في البيئة السعودية، يتم التعاقد مع كوادر أجنبية عربية وغير عربية للقيام بهذا الدور.
خريجو «مدارس المتفوقين الثانوية» هم من يلتحق بـ «الكليات الصناعية»، ليتخرجوا على أيدي الخبراء الصناعيين الأجانب كمهندسين وفنيين. يتوزع هؤلاء الخريجون ليقوموا بدورين، أحدهما العمل كمعلمين ومدربين للطلبة الجدد في «الكليات الصناعية» و»المصانع الجامعية»، والدور الآخر التدرب على عمليات الإنتاج في «المصانع الإنتاجية» التي تنشئها (وزارة التجارة والصناعة).
بمضي عقد من الزمن على العمليات التعليمية في «الكليات الصناعية» و «المصانع الجامعية» من جهة، والممارسة التطبيقية في «المصانع الإنتاجية» من جهة أخرى، سيصبح المهندسون السعوديون خبراء صناعيين ماهرين ومبدعين يتخرج على أيديهم أجيال جديدة من كوادر الوطن تتصدر العملية التصنيعية، وتحقق المعادلة التي حققتها دول كانت متخلفة.
من شأن هذه الإستراتيجية في أمدها الطويل أن تنتشر المصانع الوطنية القائمة على التقنيات الحديثة والتي تدار بريادة نخب الشباب السعودي. ذلك يقود إلى زوال شبح البطالة، ويزول الأثر السلبي لتزايد أعداد العمالة الأجنبية، التي سينحصر دورها في الأعمال الحرفية واليدوية البسيطة التي يعزف عنها الشباب السعودي، وسوف لن يكون لهذه العمالة الكلفة الاقتصادية المؤثرة على الاقتصاد لكون معدل الناتج القومي غير النفطي سيرتفع كثيراً بفعل نقص الواردات وزيادة الصادرات، بينما العمالة الأجنبية الماهرة وشبه الماهرة ستختفي تلقائياً بفعل عملية الإحلال الآلي التي يقوم بها المبدعون من شباب الوطن، الذين ستغطي جدوى اقتصاديات توظيفهم أي ارتفاع في معدل أجورهم.
وختاماً، الأمر بحاجة إلى شد أركان (مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية) للتسريع في استثمار العوائد النفطية للبدء في بناء هذا الاقتصاد التصنيعي، قبل أن يؤدي قصور الأداء إلى انعدام قدرة أجهزة الدولة على توفير فرص العمل لمجاميع الشباب القادمة، الأمر الذي يهدد استقرار الدولة والمجتمع.