د.فوزية أبو خالد
لا آتي بشيء جديد على المعادلة السياسية والعسكرية في الحروب الكلاسيكية والمعاصرة معا بقول إن لكل حرب عادلة جبهتين للمواجهة ولبلوغ الهدف. فمن ناحية هناك جبهة المواجهة الخارجية مع العدو أو المعتدي التي تشكل قوتها العسكرية وإداراتها السياسية
شرطاً للاستعداد لها ولخوضها بنجاح. ومن الناحية الأخرى هناك الجبهة الداخلية التي لا تقل أهمية في المواجهة وفي تحديد احتمالات الهزيمة أو النصر. غير أن الجديد هو سؤال أنفسنا عن مسؤولية مؤسساتنا الرسمية والمدنية وبمنافذها التربوية والثقافية كالجامعات الحكومية والأهلية ومراكز البحوث وأندية الأدب والثقافة والمنابر الإعلامية عن دورنا في إقامة علاقة تآزر بين الجبهة الخارجية وبين الجبهة الداخلية.
ولحيوية هذه الجبهة في عاصفة الحزم وخاصة فيما تتعرض له من محاولات بائسة لإعطائها صبغة طائفية أو محاولات التشكيك في طبيعتها العادلة وفي أهدافها وفي الضرورة التي اقتضتها، فقد رأيت أن أفرد مقال اليوم للحديث عن الجبهة الداخلية.
فهذه الجبهة تمثل المجتمع بتنوعه وتوحده في علاقته بالموقف الوطني من الحرب. وهي التي يشكل تجذر الوعي السياسي بقضية الحرب والشراكة الوطنية في سرائها وضرائها حجر الأساس لضمان تماسكها وصمودها. وإذا كان قد قيل قديما إن الحرب أخطر من أن يترك أمرها للجنرالات في معرض الرمز لتشابك قرار الحرب ومساراتها مع السؤال السياسي والوجودي للمجتمعات والأوطان، فإن حروب عصر ما بعد ثورة الاتصالات تجعل من هذا القول مطلباً وطنياً ملحاً في إطار هذا الطوفان المعلوماتي الهادر. فحروب ما بعد ثورة الاتصالات لم تعد تجري إدارتها في غرف عمليات عسكرية معزولة على وجه الدقة، كما أن معاركها لم تعد تجري في مواقع بعيدة عن حياوات المدنيين ولا عن عيون المجتمع المعني والمجتمع الدولي عموما. بما جعل الحرب شأنا وطنياً وكونياً ليس في تأثيرها المصيري على الدول والشعوب وحسب بل وفي تأثير مواقف الرأي العام الداخلي والخارجي عليها.
ومن هنا فكلما نجحت الأوطان عند خوضها لحرب عادلة في تقوية جبهة المواجهة الداخلية كلما كانت أقدر على تحصين انسجام النسيج الاجتماعي وتوافقه السلمي. بما لا يسمح بأن يصبح المجتمع وشتى قواه الاجتماعية عرضة لأي من فيروسات الدعايات والادعاءات المضادة التي قد تحاول استغلال الاختلافات المجتمعية سواء كان طائفية أو مناطقية أو قبلية أو سواها لتحويلها إلى مجال حيوي للاختراق. وذلك عادة ما يجري إما بإثارة الفتن وتحويل الاختلافات المجتمعية الطبيعية إلى خلافات صراعية أو بالتشكيك في مشروعية الأسباب التي اقتضت المواجهة. ويكون هدف مثل هذه الخروقات بطبيعة الحال ونتيجته لا سمح الله هو إضعاف موقف الجبهة الخارجية أي جبهة العمل العسكري المباشر ولو معنوياً عن طريق خلخلة الجبهة الداخلية. وهنالك في التاريخين البعيد والقريب أمثلة على حروب حولتها سهولة اختراق جبهاتها الداخلية إلى صراعات عنفية بين القوى الاجتماعية أدى إلى انكسارها على الجبهة العسكرية الخارجية مثل الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. كما أن هناك أمثلة على حروب حال موقف الرأي العام الداخلي أو الخارجي منها وخاصة ما بعد ثورة الاتصالات بينها وبين الوصول إلى أهدافها المعلنة. ومن تلك الأمثلة حرب أمريكا على أفغانستان 2001 وحربها على العراق 2003، وإن كانت طبيعة حروب أمريكا المشار إليهما التي تأسست على العدوانية والهيمنة وإن تسمت باسم محاربة الإرهاب قد تضافرت مع الرأي العام الرافض لها لتشكل الأسباب الجوهرية لتراجعها دون تحقيق كامل أهدافها المعلنة.
إن رفع سقوف التفكير بصوت مسموع وضمان مساحة شاسعة لحرية التعبير يعتبر من ضمانات وحدة الجبهة الداخلية الهامة ومما يعزز لحمة الانتماء والاستعداد لفداء الوطن بالروح والدم خاصة حين يكون ذلك الحق مكفولا لمختلف الأطياف السياسية بتنوع مشاربها الفكرية على قدم المساواة ودون التنابذ أو التصنيف أو المزايدة في مصداقية علاقة كل منها بالوطن.
لا يمكن أن نترك شباباً من أبناء الوطن يحملون حياتهم على أكفهم ويتقدمون بشجاعة نحو الموت لما يقارب اليوم من ثلاثة أسابيع متواصلة من أجل أن يهبوا وطنهم سيادة وطنية ومن أجل منعة الجار ومن أجل أن يهبونا دولة وشعباً استقراراً وسلماً سياسياً واجتماعياً، دون أن نشاركهم ولو بالكلمة المؤيدة قطرة من ضريبة الدم التي يدفعونها بسخاء ذوداً عن تراب هذه الأرض.
لقد كتبت على تويتر سؤالاً محملاً بقلق الأمل في حب الوطن في هذه اللحظة الحارقة. كان السؤال، بمجرد أن أفتح عيوني بعد نوم متقطع حاشد بصور شبابنا على الجبهة يقفز أمامي سؤال لا يترك دمي لا في صحو ولا في منام، وهو سؤال ماذا نقدم لهم ولنا وللوطن؟
ولقد جاءتني إجابات مكتوبة بحبر شفيف اسمه الأمل، وبعهد غليظ اسمه الوفاء للوطن. ومنها أن نعيش معهم بتفكير عقلاني وبوعي وطني وبالعفاف عن الانغماس في ملذات الاستهلاك وبالوعي الوطني الذي يرفض الطائفية والمناطقية والقبلية وكل أشكال الانقسام التفريقي مع احترام حرية التعدد والاختلاف وسجال الرأي السلمي في وحدة وطنية.
أما أمل الفران فقد قدمت لي في الإجابة على ذلك السؤال المستعر في صدر كل منا ريشة من عشق مبرح وجرح لا يتوقف عن التدفق بعسل وراح وماء فقالت اكتبي شعرا.
كتبت في نفس الاتجاه المورق بقلق الأمل سؤالا مباشرا لقسمي بالجامعة يقول:
«هل بالإمكان أن أقدم محاضرة للضرورة على مستوى القسم والكلية والجامعة ككل بقسميها نساء ورجال عن عاصفة الحزم. فهذا واجب وطني في أعناقنا جميعاً وواجب أدبي على مؤسساتنا للتعيلم العالي التي تضطلع بقيادة أجيال الشباب لتكون مبادرة وطنية من جامعة الملك سعود ومن كلية الآداب ومن قسم الدرسات الاجتماعية. وقد أضفت على السؤال بأنني شخصيا مستعدة لوضع معرفتي كمختصة في علم اجتماع المعرفة ولعلم الاجتماع السياسي وككاتبة رأي لتقديم هذه المحاضرة في أقرب وقت ممكن ابتداء من هذا الأسبوع. وبالله النصر لجيشنا والجيوش المشاركة ضمن التحالف ووطننا الغالي. مضى وقت دون أن أسمع ردا.
فارسلت نفس الرسالة لمدير الجامعة أ.د. بدران العمرو من باب الإصرار على دور مؤسسات الفكر والعلم والثقافة، جامعات وسواها في تقوية الجبهة الداخلية وخلق موقف وطني موضوعي وعقلاني نعاضد به الجبهة العسكرية..
المفاجأة على غير عادة المدراء أن د. بدران بادر برد سخي في أقل من خمس دقائق. وجاء رده مرحبا بالفكرة وبالاستعداد لدعمها وتقديره للمبادرة.
بقيت نقطة ضوء أخرى عندما كتبت لي الزميلة د. هند الميزر رداً جميلاً أضاف تطويرا مستنيرا للفكرة.
بعض الزميلات تحفظن بالصمت، وقلة أيدت الفكرة مع إبداء تخوف من حساسية الموضوع.
لكل هذا رأيت أهمية أن أكتب عن دور كل منا خاصة المؤسسات الطليعية التي لها طريق على الشرائح الحيوية من القوى الاجتماعية كالطلاب والباحثين شبابا وشابات لتقوية جبهتنا الداخلية.