د.عبدالله مناع
يمكن اعتبار مذكرات السيدة هيلاري كلينتون (خيارات صعبة)، والتي أصدرتها في شهر أغسطس من العام الماضي عن دار (سيمون آند شاستر) البريطانية.. بمثابة (المقدمة) لـ (حملتها) لانتخابات العام القادم
(الرئاسية) كمرشحة عن الحزب الديمقراطي بعد أن أعلنت عن ذلك خلال الأسبوع الماضي، وهو أمر.. وإن عكس درجة طموحها وثباتها وإصرارها في أن تكون أول (امرأة) تسعى لترؤس البيت الأبيض، لتصبح الرئيس - أو الرئيسة - الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية.. إلا أنه يعكس - في الوقت نفسه - حالة من حالات (البارانويا) - أو العظمة المصطنعة - التي تعاني منها السيدة هيلاري وعلى ما يبدو.. إذ لم يكفها أن تكون (السيدة الأمريكية الأولى) لثماني سنوات، برفقة زوجها الرئيس - الثاني والأربعين - بيل كلينتون، ولم يرضها أن تفوز بمقعد في مجلس (الشيوخ الأمريكي) لتصبح (الشيخة) هيلاري!! ولم يشبعها منصب (وزيرة خارجية) الولايات المتحدة الأمريكية الذي شغلته طوال الأربع سنوات الأولى من دورتي الرئيس أوباما في البيت الأبيض.. الذي حقق لها شهرة وسمعة وجعل اسمها يتصدر نشرات الأخبار في الإذاعات وعلى صفحات الصحف وفوق شاشات التلفزيون، لتواصل سعيها مجدداً إلى البيت الأبيض عبر (مذكراتها) خيارات صعبة.. حتى بدت كما لو أنها مقدمة لحملتها الرئاسية الانتخابية القادمة..؟
فقد امتلأت الصفحات الأولى من تلك المذكرات.. لا بالحديث عن طفولتها أو دراستها أو بيت العائلة القديم أو عواطفها وشقاوة سنوات المراهقة، ولكنها امتلأت بتفاصيل التفاصيل عن تجربة ترشيحها وترشيح الحزب الديمقراطي لها ولـ(أوباما) عام 2008م.. والصراع الذي دار بينهما في تلك الانتخابات التمهيدية التي أسمتها بـ(التاريخية) بسبب (عرقه) الملون و(جنسها) الأنثوي!؟ والتي امتد فيها الصراع من المرَشحيْن إلى مؤيديهما من أعضاء الحزب: بين النساء وأنصار المرأة الذين يؤيدونها.. والأقليات والملونين الذين يؤيدون (أوباما).. إلى أن التقيا في مدينة (يونايتي) في (نيوهامشير)، وهي المدينة التي فاز فيها كل منهما بـ (107) صوتاً.. حيث اختارتها تفاؤلاً باسمها الذي يعني (الاتحاد).. لأن تقدم من فوق أرضها نموذج (التضحية) - المفتقد.. ربما على مستوى العالم كله - عندما أعلنت (كي نتوحد كحزب واحد، له هدف واحد، ولا يوجد أحد منا.. من الممكن أن يكون على الخطوط الجانبية، هذه معركة من أجل المستقبل.. يجب أن نخوضها معاً).. لتعلن في النهاية قائلة: (باراك أوباما هو مرشحي، ويجب أن يكون رئيسنا)!! لتقول إحدى السيدات تعقيباً على هذه التضحية - كما ذكرت -: (انتخبوا هيلاري.. لمنصب بابا الفاتيكان)!! وهي إشارة تمهيدية بارعة.. ودعوة لإعطاء صاحبة هذه التضحية بنجاحاتها التي تخلت عنها.. فرصتها الجديرة بها، وإن بلغت (صاحبتها) السابعة والستين أو أنها أصبحت (جدة) بحفيدتها (شارلتون).. حتى علقت إحدى الصحف قائلة: لقد قبلناها (سيدة أولى).. ولكننا (لا نريدها أماً أولى)!!
* * *
إلى جانب هذه الدعوة الذكية والملحة لتسميتها كـ(مرشحة) للحزب الديمقراطي - وهو ما سيكون عليه الأمر.. في الغالب - تمهيداً لـ (انتخابها) (رئيسة) للولايات المتحدة.. عندما تدور عجلة الانتخابات الرئاسية الأمريكية في الخامس من نوفمبر من عام 2016م، فقد دعمت قصة ترشيحها وتنازلها في الانتخابات الرئاسية الماضية.. بصفحات من التعظيم والإجلال والإكبار لـ(إسرائيل).. تزيد عن خُمْس حجم كتابها - المكون من خمسمائة وستة وتسعين صفحة - وهي تتحدث عن (الشرق الأوسط والطريق الصعب إلى السلام والمستقبل الذي نريد)، فـ (إسرائيل) تمثل - كما قالت - (أكثر من دولة. إنها حلم ترعرع في ضمائر أجيال وأجيال حتى أصبح حقيقة بفضل عزيمة وتصميم أولئك الرجال والنساء الذين رفضوا الاستسلام لأحلك الظروف وأصعب المواقف)، وهي - أي.. إسرائيل - (مثال يحتذى عن الاقتصاد المزدهر، ونموذج واضح عن القدرة على الجمع بين فنون الابتكار والحرفية في أداء الأعمال وبما يضمن خلق الرخاء حتى في أكثر المواقف حرجاً)، وهنا يكمن السبب الذي جعل الرئيس هاري ترومان يستغرق 11 دقيقة فقط (!!) لإعلان اعترافه بدولة إسرائيل الجديدة عام 1948م.. كما ذكرت!!
لقد بدأت حديثها عن (الشرق الأوسط) وصراع الفلسطينيين مع (إسرائيل) من أجل إقامة (دولتهم)، وفق (حل الدولتين اللتين تعيشان جنباً لجنب في سلام)، الذي أقرته دول العالم أجمع.. وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية صاحبته - نفسها -.. بحديث عجيب مسهب عن (العلم الفلسطيني) تقول فيه: (يتألف علم الدولة الفلسطينية من ثلاثة قطاعات مستطيلة أفقية ملونة بالأسود والأبيض والأخضر، ومثلث أحمر متساوي الأضلاع ترتكز إحدى قواعده على جهة التعليق بالسارية)، وأنه - أي العلم الفلسطيني - محظور رفعه في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة.. حتى بعد اتفاقية أوسلو عام 1993م (لأن بعض الإسرائيليين يعتبرونه رمزاً للإرهاب والمقاومة)، ولذلك (كان من قبيل المفاجأة بالنسبة لي أن أرى العلم الفلسطيني ذاته بألوانه السوداء والبيضاء والخضراء والحمراء.. منتصباً إلى جانب علم إسرائيل بلونيه الأرزق والأبيض عندما قمت بزيارة إلى مقر الإقامة الرسمية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في القدس في منتصف شهر سبتمبر 2010م).. عند مشاركتها في أول مفاوضات تجمع بين (نتنياهو) و(عباس) بعد سقوط (إيهود أولمرت)، والتي تحطمت عند (المهلة الزمنية) التي اقترحها نتنياهو لإيقاف (الاستيطان) في الضفة الغربية - التي تمثل نصف أراضي الدولة الفلسطينية - بعشرة أشهر وهو ما رفضه الرئيس محمود عباس وهدد بالانسحاب من المفاوضات - كما قالت - بينما الأمر كان على غير ذلك.. فإلى جانب رفض التوحش الاستيطاني الإسرائيلي في أراضي ومدن الضفة الغربية من قبل الرئيس (محمود عباس).. كانت هناك مشكلة ترسيم حدود الدولة الفلسطينية الجديدة، وعودة اللاجئين الفلسطينيين من الشتات، ووضع (القدس) التي يعتبرها كل طرف عاصمة لدولته.
نعم كانت البداية هي الخلاف حول مهلة إيقاف الاستيطان التي يراها (نتنياهو) بعشرة أشهر.. بينما يراها (عباس) إلى الأبد، والتي صمتت عنها هيلاري.. ولم تقل كلمة حق فاصلة حاسمة بـ(عدم شرعيته)، لتنفض تلك المفاوضات.. ولتقول هيلاري فيما بعد (الآن وبعد أن غادر الطرفان الطاولة في هذه اللحظة الحرجة، تغلبني القناعة بأنه بات من الصعب جداً أن نجد طريقاً جديداً خارج هذا النفق المسدود).. بينما كان يمكن إنقاذ تلك المفاوضات لولا متاجرة هيلاري.. بـ(صهيونيتها)، وحلمها في أن توصلها إلى المكتب البيضاوي.. عندما تأتي ساعتها.
* * *
على أي حال تبقى هذه (المذكرات) رغم انحيازها البليد وغير المبرر لـ (إسرائيل).. ذات أهمية قصوى لعالمنا العربي، فقد كشفت فيه هيلاري.. عن علاقة (الإخوان) بالإدارة الأمريكية!! التي ربما ظلت تراوح عند بعض الدراويش.. بين تصديقها وتكذيبها، لتؤكدها وزيرة الخارجية الأمريكية نفسها.. عندما قالت (كنا على اتفاق مع جماعة إخوان مصر، وطلبنا منهم إعلان دولة إسلامية في سيناء، واتفقنا على انضمام حلايب وشلاتين إلى دولة شمال السودان، وكذلك فتح الحدود الغربية لمصر مع ليبيا من ناحية السلوم، وكان قد تم الاتفاق على إعلان الدولة الإسلامية يوم 5-7-2013م.. حيث كنا ننتظر الإعلان عن طريق المجاهدين لكي نعترف نحن وأوروبا بدولتهم)!؟ وهي تضيف (لقد كان كل شيء يسير على مايرام، وجيد جداً إلى أن قامت ثورة 30-6 و3-7 في مصر ليتغير بعدها كل شيء. إذ لم نكن نتصور أن تتغير الأمور بهذه السرعة وفقط في خلال 72 ساعة)!! لتضيف بحسرة (إنه شيء مهول: بالقدر الذي دفعنا للتفكير في استخدام القوة، ولكن سرعان ما أدركنا أن مصر ليست كوريا أو ليبيا).. إنها أوجه المؤامرة الأمريكية على مصر إن كان بـ(الاعتراف) بدولة (سيناء) الإسلامية - العجيبة - هذه!! أو بـ (ضرب) ثورة الثلاثين من يونيه، وهما الأمران اللذان تحدث عنهما (المشير) السيسي من قبل ثورة الثلاثين من يونيه.. و(الرئيس) عبدالفتاح السيسي بعدها وعن ما يُحاك لمصر أمريكياً إجمالاً، وأن على (المصريين).. أن ينتهبوا لـ(مصر)!؟
* * *
هي في النهاية (مذكرات) بالغة الإنحياز لـ(إسرائيل).. بليغة الاستجداء في توسلها لأعضاء الحزب الديمقراطي من أجل الدفع بها لأن تكون مرشحته الأولى، ولبقية الأمريكيين من أجل انتخابها لتكون الرئيس - الرئيسة - الخامسة والأربعين للولايات المتحدة.. أمام أولئك الذين قبلوا بها (سيدة أولى)، وأعلنوا عن عدم قبولهم لها (أماً أولى)، أو (زوجة أب) لمصير العرب منهم.. في التناول الأمريكي لقضاياهم!!