يقول ابن منظور في لسان العرب: الدهاء العقل؛ وقالت العرب: الدهاة أربعة: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة, وزياد بن ابن أبيه؛ والحقيقة أنَّ الدهاة في العرب كثيرون، غير أنَّ هؤلاء كانوا هم أشهرهم.
ويأتي الملك عبدالعزيز في مرتبة متقدمة في زمرة الدهاة بلا ريب، فقد شهد له القاصي والداني بذلك.
لقد امتزجت شخصية الملك عبدالعزيز القيادية بالجمع بين القيم الإسلامية من ورع، وخشية لله، وإخلاص العمل له، وإعلاء كلمته، وإقامة حدوده، وبين القيم الأصيلة المتمثلة في الشرف، والشجاعة، والاعتزاز بالنفس، والتقشف، والكرم، ممَّا ساعد ذلك على تحقيقه للعدل والأمن في ربوع المملكة.
وقد نشرت مجلة (التايم) الأمريكية في عددها الصادر بتاريخ 5 مارس 1945م، تقريرًا موسعًا عن اللقاء الذي جمع الملك عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله -برئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك (فرانكلين روزفلت) على متن المدمرة الأمريكية الموجودة في قناة السويس، ووصفته المجلة بأنه كان قويًا كالأسد، ويتصف بالحكمة والدهاء والصرامة.
لقد استمر حكم الملك عبدالعزيز - رحمه الله - أربعة وخمسين عامًا، وحَّد خلالها المملكة العربية السعودية الحديثة، بعد أن كانت تغرق في الفوضى والاختلاف.
وما ملحمة فتح الرياض - هذا الحدث التاريخي الذي رسم فصوله صقر الجزيرة القائد المحنك، الذي جمع بين الدهاء والحكمة والفراسة وقوة الشكيمة - إلاَّ شاهدًا حيًا على مدى ما تحمله شخصية الملك عبدالعزيز من سمو ورفعة.
لقد كان الملك عبدالعزيز - رحمه الله - سياسيًا من الطراز الأول، مُدَبِّراً للأمور، يحسن إقناع خصومه.
وقد مكنه دهاؤه وحكمته وتدبيره من انتشار ملكه، وترسيخه، وصموده أمام الشدائد، فهو واثقٌ بالله، لا يهن، ولا يجزع، ولم يعرف عنه يومًا أنه تزعزع أو ضعف.
ولم يهدأ له بال حتى تمكن - رحمه الله - من الوصول إلى مراده، وهي السيادة وتوسيع نطاق ملكه، حيث كان ماهرًا في إخفاء مقاصده، لا يستفز جيرانه الأقوياء، بل يداريهم.
ومن فراسته المشهورة أنَّه لمَّا جاءه أحدُ زعماء القبائل المشهورين يعاهده على الوفاء، وعدم الغدر، وكان ذلك أمام جيش الملك عبدالعزيز، فلما ابتعد هذا الزعيم عن المعسكر صار يلتفت بكثرة إلى الخلف نحو جيش الملك عبدالعزيز. فقال الملك عبدالعزيز للحاضرين من حوله: إنَّ فلانًا وسمَّاه سينكث العهد، فقال الحضور وكيف عرفت ذلك؟ فقال الملك عبدالعزيز: لقد التفت إلى معسكرنا مرارًا يريد معرفة عددنا وسلاحنا وقوتنا واستعدادنا؛ وفعلاً ما أن وصل هذا الزعيم القبلي المعروف إلى معسكره إلاَّ وقام بإعلان مخالفته للملك عبدالعزيز، والخروج عن طاعته؛ ومع ذلك كان الملك عبدالعزيز - رحمه الله - يبالغ في إكرامه، ويتألف قلبه، وينزله منزلته.
ومن دهائه - رحمه الله - أنَّ إحدى القبائل بلغه عنها وتأكد أنها غدرت ونكثت بيعتها له، فجهز - رحمه الله - جيشه وذهب إلى هذه القبيلة ليعيدها إلى السمع والطاعة، فأخبره حاشيته أن هذه القبيلة أكثر منه عددًا وعدة، فاستشار أصحاب الرأي من جيشه، فقال بعضهم: نرجع، فقال الملك عبدالعزيز: لا، لو علموا لطاردونا، وقال بعضهم: نقاتلهم، فقال الملك: لا، لم يطمئن قلبي للقتال، ثم قال الملك عبدالعزيز: الرأي اذهب يا فلان - أحد حاشيته - لشيخ القبيلة وقل له إنَّ الملك عبدالعزيز قادم يطلب الزواج من إحدى بناتك، فإن تمَّ فالحمد لله، وإن لم يتم رجعنا من رحلة القنص إلى الرياض، وذهب مندوب الملك عبدالعزيز وأخبر شيخ القبيلة بطلب الملك عبدالعزيز فوافق شيخ القبيلة وقال مرحباً به الزواج هذه الليلة وتم الزواج وصارت القبيلة وشيخها من أنصار الملك عبدالعزيز بفضل الله ثم دهائه وحسن سياسته.
ومن فراسته - رحمه الله - أنه سأله أحد حاشيته عن أحد خصومه هل تحبه ؟ فقال الملك عبدالعزيز: أحبه وأبغضه، فقال الحضور: كيف ذلك أيها الملك ؟ فقال الملك: «أحبه لأنه علمني صديقي من عدوي».
لقد كان الملك عبدالعزيز مدرسة متكاملة يحمل في طياته أنبل صفات الشرف والعز، وكتابًا مفتوحًا يستلهم منه القارئون - على مر التاريخ - أصدق معاني السمو والسؤدد.
فرحمه الله في الغابرين، وبوأه جنة النعيم، وجعلنا وإياه يوم القيامة من الفائزين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
- عبدالمحسن بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل الشيخ