د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
عندما يمر الوطن في محنة، أو يدخل حرباً فمن واجب الجميع الوقوف صفاً واحداً خلف قيادته والاستعداد للذود عنه بصرف النظر عن أي اعتبار.. وحرب المملكة ضد قوى خيانة الأمة في اليمن تحتم هذا الموقف.. وعاصفة الحزم حرب عادلة في كافة جوانبها: من حيث مبرراتها.
.. وطريقة تنفيذها، ومن حيث أهدافها.. فالمملكة قادت تحالفاً عريضاً ضد أعوان المد الفارسي هناك بعد صبر طويل، وبعد أن طفح بها الكيل واستنفدت كافة الوسائل الممكنة لدعم الشرعية ضد قوى الانقلاب.. والحرب أخذت طابع الاستهداف الدقيق الذي تجنب بكافة الوسائل الإضرار بالمدنيين أو البنى التحتية في الشقيقة اليمن، وليس للمملكة، كدولة قائدة للتحالف، أي أطماع في اليمن، بل على العكس من ذلك هي تسعى لدعم التنمية والاستقرار فيه.
وقد نجحت المملكة نجاحاً دبلوماسياً وسياسياً كبيراً في توضيح مواقفها، وحشدت دعما دولياً غير مسبوق سواء على مستوى الدول أو مؤسسات الشرعية الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن.. ولكن النجاح السياسي لا يقتصر فقط على القدرة على توضيح المواقف والحشد عند الأزمات فقط، بل يشمل أيضاً القدرة على قراءة المواقف واستقراء تطورها قبل الوصول للطرق المسدودة التي تفرض الحرب كحل وحيد متاح لها.. وهذا يتطلب رؤى إستراتيجية تقرأ المواقف وتستبقها قبل أن تصل لطرق مسدودة.. فاليمن لم يكن يوماً ما بعيداً عن الاهتمام السعودي، وكانت المملكة داعماً دائماً للقوى الشرعية فيه، لكن هذا الدعم وللأسف ذهب لقوى داخلية تجاذبتها المصالح والتشبث بالسلطة مما أدى إلى المواقف التي نراها اليوم.. وكانت الرؤى الإستراتيجية تحتم دعم الشعب بشكل مباشر، وليس من خلال الحكومات أو قادة الأطراف هناك.
وقد سبق لكاتب المقال أن كتب مقالين في 1-7-1432، و 1-4-1436، الأول بعنوان «اليمن غير السعيد»، والثاني بعنوان «قطار الرياض - صنعاء السريع»، حذّر في المقال الأول من تدهور الأوضاع في اليمن، ومن دعم الرئيس علي عبد الله صالح بالذات فيما ادّعاه من حربه ضد الإرهاب، لأن التاريخ أثبت أنه زئبقي وغير موثوق، وتمنى الكاتب «أن يتحرك مجلس التعاون بشكل أكثر جدية، لإعادة التوازن في اليمن، ولتسريع انخراط اليمن في مجلس التعاون، لأن اليمن بما يملك من إمكانيات طبيعية وبشرية كامنة قد يُشكّل إضافة فعلية للمجلس لا عبئاً مستقبلياً عليه.. وكل ما على دول الخليج هي أن تتحرك لتطوير اليمن اقتصادياً فهو عمقها الأوسع وخاصرتها الجنوبية.»
أما المقال الثاني فشدد على أن اليمن «ستبقى، بشقيها الشمالي والجنوبي، بحكم موقعها الجغرافي وتركيبتها السكانية عُمقاً إستراتيجياً للمملكة العربية السعودية؛ فإما أن تكون اليمن عوناً للمملكة أو شغلاً شاغلاً لها - وأن اليمن كما يلاحظ اليوم (حينئذٍ) يشهد حالة من عدم الاستقرار وربما ينزلق إثرها في حرب أهلية ستؤثر بلا شك على جميع الدول المجاورة وعلى رأسها المملكة (ما حصل اليوم) التي تشاطر اليمن شريطاً حدودياً يمتد لآلاف الكيلومترات.. - ويبقى السؤال الأساس حول إمكانية تغيير الإستراتيجية تجاه اليمن بشكل جذري يتم التعامل بموجبه مع قطاعات الشعب اليمني مباشرة عبر سياسة تكامل على مختلف الأصعدة؟»
«الجغرافيا والتاريخ تجعل اليمن بلداً حيوياً جداً للمنطقة برمتها، فاليمن بموقعه المتميز وامتداده الجغرافي وثرواته الطبيعية كان منذ القدم محل صراعات هدفت للسيطرة عليه، ومنها صراع حبشي - فارسي قبل ظهور الإسلام بما يزيد على ألفي عام، وقد حكم الفرس اليمن لفترة طويلة.. وقد أرسل النبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام من أوائل رسله رسولاً لملوك اليمن، وكان لقريش رحلة سنوية لليمن لما فيه من خيرات كثيرة عندما كان يُسمى لذلك باليمن السعيد.. ولم يفقد اليمن موقعه الإستراتيجي قط وكان محل اهتمام الأتراك والإنجليز، وأخيراً الاتحاد السوفيتي السابق -.. ولا شك أن التاريخ يخبو ولا يموت فلا يزال اليمن عمقاً تاريخياً عظيماً وإمكانيات كبيرة للنهوض مجدداً يمكن البناء عليها.»
ويستمر المقال: «وللمملكة بشكل خاص أعمق العلاقات التاريخية والإثنية مع اليمن، فالاختلاف بين الشعبين لا يكاد يذكر، وقد قدم إخوتنا اليمنيون سواء من الشمال أو الجنوب للمملكة مبكراً أيام السنوات العجاف، وساهموا في بناء نهضة المملكة وتحديثها، ولديهم دور مشهود في بناء الأعمال وممارسة تجارة الاستيراد، وهم أول من أنشأ بنوكاً ومؤسسات صيرفة، ومنهم كان وزراء ومدراء على مختلف المستويات، ونحن كعرب جذورنا جميعها في اليمن.. وكثير من القبائل السعودية لها امتدادات في اليمن، فكل شيء يوحي بالتكامل: الجغرافيا، التاريخ، المصالح، التركيبة السكانية ولا يُستثنى من ذلك إلا المستوى السياسي الذي هو دائماً في حالة تجاذب كلفت الجانبين الكثير من الخسائر المادية والبشرية التي لو صرفت على التكامل لكان ذلك أرخص بكثير.»
اليوم، وبعد ظهور جماعات كجماعة الحوثي، تديرها جهات خارجية من أجل استهداف المملكة، وبعد ظهور معطيات أخرى على مستوى مجلس التعاون الخليجي، قد يجدر بنا أن نعيد النظر في توجهاتنا حيال اليمن لاستيعاب هذا القطر الجار المهم.. فمن وجهة النظر الإستراتيجية قد يكون اليمن حليفاً إستراتيجياً قوياً يُعتمد عليه، فيما لو تم التأكيد على العوامل المشتركة بين البلدين.. فالحوثي مرحلة عابرة، وميلشياته مجموعة من المرتزقة الذين صرف على شراء ذممهم هو وحلفاؤه مبالغ طائلة من المال مستغلين في ذلك فقرهم وحاجتهم.. وبعض هذا المال وللأسف مال أتى من الدعم السعودي السابق لبعض القيادات اليمنية ووجد طريقه لأرصدة خاصة، والآن يُستخدم ضد المملكة!»
و»اليمن، لنكون صريحين، استبعد من مجلس التعاون بحكم تركيبته السياسية، وهو لا يُشكّل الأهمية الإستراتيجية ذاتها لمعظم دول الخليج الأخرى كما هو بالنسبة للمملكة، فموقع البحرين أو الكويت الجغرافي من اليمن مثلاً يختلف عن موقع السعودية.- كما وظهر اليوم أن تشابه النظم السياسية بين دول المجلس ليس ضمانة كافية ووحيدة لدعم التوافق التام بين أعضائه، وأن الأصول الإثنية والسكانية والمذهبية لبعض سكان الدول الخليجية بدأت تؤثر بشكل واضح على توجهاتها السياسية وخصوصاً المواقف من إيران.- ما أرمي إليه هنا هو أنه يجب أن يكون للمملكة موقف مختلف من اليمن تمليه مصلحتها الذاتية ومصالحها المشتركة مع اليمن فقط.»
«والسعودية اليوم أمام خيارين في التعامل مع اليمن، إما استمرار سياسة الاحتواء السياسي والعسكري الحالية، وهذه أثبتت عدم جدواها وكلفتها العالية، أو اتباع سياسات إستراتيجية جديدة تعتمد على التكامل معه، وهنا يتحول اليمن إلى عمق اقتصادي وإستراتيجي داعم للمملكة يضيف لها بدلاً من أن يكون عبئاً عليها..- ولو أبدت المملكة مثل هذا الاهتمام، ووضعت خططاً مشتركة لذلك، فسيضرب اليمنيون بالحوثي عرض الحائط ومعه النفوذ الإيراني.»
فالتكامل هو ما يحكم العلاقات الإستراتيجية مع اليمن، والمملكة تملك كل عوامل النجاح في ذلك، فلديها قطاع اقتصادي كبير جذوره موجودة في اليمن، ويمكن أن يشكّل نواة لبدء هذا التكامل.. فيمكن لليمن وقتياً سد حاجة السعودية من اليد العاملة المدربة، وهي عمالة سريعة التكيُّف والتأقلم لأسباب لغوية وثقافية بدلاً من العمالية الآسيوية التي تأتي من أماكن بعيدة وترسل مدخراتها لدول بعيدة.. فالعمالة اليمنية سترسل مدخراتها لسوق سيكون للشركات السعودية امتداداً وعمقاً، وهو سوق لا يُستهان به، أي أن الوضع سيكون مربحاً للطرفين.. ويمكن مبدئياً تأسيس مدن صناعية على الحدود الشمالية لليمن والجنوبية للسعودية برأسمال سعودي وعمالة يمنية كتلك التي أقامتها أمريكا على حدودها مع المكسيك، كما يمكن ضخ استثمارات اقتصادية في اليمن لاستغلال ثرواته الطبيعية، وبخاصة سواحلة الطويلة، وإمكانياته الزراعية والسياحية بشكل مشترك يكون مربحاً للطرفين.. أي الابتعاد عن سياسة الضخ المباشر للمعونات كأموال لخزينة النظم السياسية اليمنية أو أي طرف آخر، واعتماد سياسة بناء المصالح الاقتصادية المشتركة على المدى الطويل على مستوى القطاع الخاص في البلدين وفق اتفاقيات محددة.. والله من وراء القصد.