د. عبدالحق عزوزي
هناك كما سبق وأن كتبت تواطؤ بين العلوم الاجتماعية والإنسانية من أجل استنباط علم جديد ألا وهو علم المستقبليات، تماماً كما هو الشأن بين علم السياسة الذي يعنى بدراسة الظواهر الاجتماعية وعلم التاريخ
الذي يعنى حسب تعريفه الكلاسيكي بالماضي من أجل استنباط علم المستقبليات. وهذا العلم هو من الأهمية بمكان لأنه يرسم خريطة طريق ذهنية وخريطة للمستقبل تعين دوائر القرار وصناعه على تمثل الإشكاليات والمخاطر والمحاسن وكل الاتجاهات الممكنة الممتدة عبر الزمن المتوسط والبعيد والمحتمل بروزها في المستقبل وعلى تمثل الأحداث غير المتوقعة (Wild Cards) والقوى والفاعلين المحركين للأحداث (Driving Forces). فصاحب القرار الذي يعي أهمية المسؤولية الملقاة على عاتقه والذي يعيش لأجل السياسة لا من السياسة لتسيير الشأن العام وبلورة سياسات عمومية حكيمة وقويمة يجد على طاولته خيارات ممكنة ومتاحة، وكل خيار له تداعياته، فتتم عملية المفاضلة بينها؛ إذن فالدراسات الاستشرافية تساعد رجل الدولة على الاختيار المرتبط بالحقائق والتنبؤ العلمي بما سيكون عليه المستقبل مع الاستعداد الأمثل له بتحديد كيفية بلوغه من خلال قرارات وبرامج.
وبالرجوع للحديث عن المراكز البحثية في الوطن العربي التي عليها مثل هاته الرياضة الفكرية فإن عددها قليل، وتأثيرها محدود وإنتاجها ضعيف للأسف الشديد، فهناك ضعف الأساس النظري الذي تستند إليه الدراسات المستقبلية في التراث العربي، وهناك طغيان النظرة السلبية إلى مجتمعاتنا وطرح الأسئلة الخاطئة عن أسباب هذا الانحطاط، بسبب فقدان المنهجية الذهنية الرياضية التي طبقها الغرب وتجاهلها العرب، فمثلاً قليل هم الباحثون الذين يتطرقون إلى جوانب إشكالية مستقبل الدولة الوطنية في الوطن العربي ليساهموا في تجاوز حالة الضعف التنظيري والفكري المتلازمة مع حالة التراجع في الواقع السياسي للنظام العربي، وليساهموا في تجاوز الفقر المعرفي عن معنى الدولة في الفكر الحديث وعدم تشبع الوعي العربي بمفهومه المعاصر مما يدفع البعض إلى أنواع مختلفة من الخلط بينها وبين السلطة والنظام السياسي وإلقاء اللوم دائماً على الفاعل الخارجي (من استعمار وصهيونية وعولمة وغيرها من التبريرات) وتجاهل الفاعل الداخلي. وقد صدر للمفكر التنموي والأستاذ في جامعة تافنس الأمريكية لورانس هاريسون كتابا قل نظيره سماه (الحقيقة الليبرالية المركزية)، وأصل فكرة الكتاب هو أنه عندما تقع دولة في أزمة حضارية كبيرة، فإن الفاعلين فيها عادة ما يسألون أنفسهم سؤالاً من سؤالين يكون محددا لمستقبل البلاد والعباد. السؤال الأول هو ما الخطأ الذي ارتكبناه؟ وهو سؤال نقدي ذاتي يقود إلى نكران الذات والإجابة الموضوعية عن السؤال ويلقي بالمسؤولية على الشعب نفسه لتصحيح اعوجاج المسار التاريخي.والسؤال الثاني من فعل بنا هذا؟ وهو السؤال الخاطئ الذي يدخل الشعب في غيابات الجب ومصائب آزفة من الخزعبلات والأوهام كوهم المؤامرة والاضطهاد، وتلقي اللوم على أعداء وهميين يتربصون بالشعوب الدوائر..! يقول مؤلف الكتاب إن دولا كاليابان طرحت السؤال الأول فأقلعت اقتصاديا وحضاريا بعدها، ودولا عديدة كالدولة العربية اختارت السؤال الثاني وما زالت تعاني التخلف الحضاري والتراجع فتغيب بذلك النظرة إلى المستقبل.
كما أن القيم الأخلاقية مثل الثقة والصدق والتعاون من أهم الأسس التي دفعت دولا مثل النرويج والسويد والدنمارك لتمثل قائمة الدول الأكثر تفوقا على عكس الثقافات التي تسيطر عليها أفكار انعدام الثقة والتعاون. ماريسون يقول إن الثقافة هي المشكلة الأساسية ليست فقط من خلال القراءة ولكن عن طريق التجربة وهو الذي عمل لسنوات في مشروع التنمية السياسية المخصص من قبل الحكومة الأمريكية لتنمية العديد من بلدان أمريكا الجنوبية، والنجاح دائما ما يكون صعبا لأن النجاح يحتاج إلى ثقافة مدعمة.
فالنظر إلى المستقبل هو محرك تقدم الأفراد والشعوب. وهناك فكرة رئيسية تشكل طريقة هذا النوع من التفكير وهي أن العصر الذهبي للإنسان هو في المستقبل وليس في الماضي. هاته هي الثقافة الصحيحة، والثقافة هي أم جميع الأفراد والجماعات والمؤسسات وهي عادات القلب والانطباعات التي تملك الإنسان والأفكار والتي تشكل عادات تفكيره. وهذا على نقيض الثقافات التي تسكنها قاعدة أن الماضي أفضل من الحاضر وبالتأكيد أفضل من المستقبل المجهول والمتوحش... ونتيجة هاته الفكرة هي التثبيط التي تغلق الفكر وتقعده وتمنع الفرد من الحركة... فإذا أرادنا الحلول لعللنا علينا أن نطرح السؤال الأول وننظر فقط إلى داخل أنفسنا.
فصياغة دراسات استشرافية مستقبلية في الوطن العربي، يبقى رهيناً بإصلاح منظومة التعليم والبحث العلمي والجامعات فهي تشكل في نظري اكثر من 70 في المائة من الشروط الضرورية أو لنقل هي البذور الحقيقية لشجرة مراكز الأبحاث ودراساتها الاستشرافية، وبدونها لا يمكن أن تحقق الدراسات المبتغى، والثلاثين في المائة الباقية تتعلق بإصلاح مشاكل يمكن حلها بسهولة إذا توفرت الشجاعة المؤسساتية للدولة والمجتمع، كالمناخ العلمي الذي يؤمن باستقلالية مؤسسات الأبحاث ودورها في دعم السياسات العمومية، والتمويل وتثبيت الاستقلالية في العمل، وعدم توجيه مؤسسات الأبحاث، وتوفير المعلومات التي تعطيها المؤسسات العمومية، والوصول إلى المعلومة والابتعاد عن العشوائية في العمل والالتزام بالموضوعية إلى غير ذلك، وهي موازية للشروط الأولى ولكنها سهلة التطبيق إذا كانت هناك الإرادة السياسية لإنتاج عقل فكري استراتيجي مستقبلي استشرافي حداثي قابل لأن يتداخل ويتفاعل نظريا وعمليا مع المعضلات السياسية الداخلية والخارجية وقضايا الاقتصاد والدولة والمجتمع والأمن الداخلي والخارجي، وقضايا الإرهاب والعولمة فيقدم خلالها معرفة علمية منهجية، ويقدم البدائل المستقبلية المختلفة عن طريق رصد وتوظيف الإمكانيات والشروط المطلوبة للوصول إلى تحقيق البديل المناسب لتوجيه الذين عليهم أمانة تسيير الشأن العام.
فلا يمكن لمؤسسات الأبحاث أن تبلور دراسات استراتيجية واستشرافية ومستقبلية بدون إعادة النظر في منظومة التربية والتعليم والبحث العلمي والجامعة، وهي مكونات معادلة توازنية واحدة، فالوطن العربي بحاجة إلى إعادة النظر في هاته المنظومة مجتمعة، وهي التي لوحدها تحقق التنمية والتنمية الهادفة... فالمطلوب من العالم العربي الآن هو البحث عن قاعدة تعليمية صلبة ومتمكنة، لأن نهضة الأمم تكون أولا وأخيرا بالعلم... فالبحث العلمي المتقدم وجودة التعليم هما أساسا قوة الاقتصاد وهيمنته في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان مثلا؛ فالإصلاح هو الذي سيمكن لوحده من انبثاق ونمو وإدخال كل الطاقات البشرية العربية والإسلامية في مجال التنمية التشاركية، وبذلك نكون قد حققنا وسائل للتغيير نحو الأنماط المجتمعية التي تسمح، ليس فقط بتحقيق القيم الإنسانية المثلى، بل أيضاً بزيادة قدرتها على التحكم والسيطرة على نمو المجتمع. فنحن وللأسف الجديد احتكمنا إلى الأدوات العلمية الخاطئة واستلمنا إلى التابوهات الموروثة والتفكير داخل بروج مشيدة واتكأنا على أفكار نمطية ولم تفهم بعض المجتمعات بأن العلم هو مجال لتنمية وتطوير المجتمعات العربية... كما توجد فجوات كبيرة بين ما حققته الأنظمة التعليمية في العالم العربي، وبين ما تحتاجه المنطقة في عملية التنمية الاقتصادية، كما أن أحد أسباب ضعف العلاقة بين التعليم وضعف النمو الاقتصادي هو بحق انخفاض مستوى التعليم بشكل كبير؛ وهناك تخلف للمنطقة العربية في اكتساب المعرفة ناهيك عن إنتاجها، ولذا فإن على كل مجتمع وقطر عربي أن يسعى إلى تطوير هذا المورد الإنساني الذي لا ينقص بل ينمو باستعماله.