د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
حتى الذين من عادتهم أن يحبسوا آراءهم أو انفعالاتهم عند انطلاق حدث كبير إلى أن تنجلي الصورة أو تظهر النتائج، لم يملكوا حبس ذهولهم وإعجابهم بانطلاق عاصفة الحزم التي نفذتها دول التحالف الخليجي والعربي بقيادة المملكة، بشكل لم يحسب له حساباً من حيث تحديد الهدف والمفاجأة والسرعة والسيطرة التامة على الأجواء، ومن ثَمّ الفعالية والكفاءة في تحقيق الهدف.
حظيت هذه العملية بتأييد قويّ ومتفهم من العالم الخارجي وتأييد حماسي من شعوب دول التحالف. وفى المملكة شاهد الكل ذلك التأييد منقطع النظير الذي أبداه المواطنون بأشكال مختلفة من تعليقات وخطب ومقالات وقصائد - عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومن فوق المنابر وعبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة، وعلى رأسها صحيفة الجزيرة ورئيس تحريرها الأستاذ خالد المالك، الذي ذكّرنا بمقالاته اليومية بالمغفور له معالي الدكتور غازي القصيبي في مقاله اليوميّ بجريدة الشرق الأوسط (في عين العاصفة) إبّان احتلال ثُمّ تحرير الكويت عام 1411هـ. بل إن جامعة الإمام محمد بن سعود أقامت ليلة فعاليات شعرية، وجامعة الملك خالد ندوة عن مشاركة منسوبي كلياتها الصحية في خدمة القوات المسلحة (الجزيرة 6-7-36 هـ). عاصفة الحزم انتهت وبدأت مرحلة إعادة الأمل لليمن وأهله، ولكن هذا لا يعني وقف إطلاق النار -كما أعلن المتحدث الرسمي- فإن سلاح الجو والجند المرابطين على الحدود مع اليمن جاهزون للرد على أي اعتداء. ولكن حتى لو توقف إطلاق النار وعاد الأمل لليمن، فإن عاصفة الحزم بالصورة التي تمّت بها والفعالية التي حققتها ستظلّ حيّة في الذهن بما توحي به من دروس علينا أن نستوعبها لحالة السلم كما هي للحرب.
الدرس الأول: أن تملّك القوة الذاتية وبناء مقوماتها لتكون قادرة على التجديد والتطوير والتعامل السريع مع أيّ حدث طارئ يهدّد أمن الوطن هو خير ضمان وأمان يستظلّ هذا الوطن بظلاله ويُشعِر شعبه بالثقة بالنفس والطمأنينة بأنه تحت قيادة واعية حكيمة، كما أنه كفيل بردع أيّ عدو محتمل عن محاولة الإقدام على عدوان أو استفزاز مباشر أو بالوكالة. ولا ينفصل عن هذا تحقيق الأمن الداخلي - ولاسيما إذا كان لأعداء الخارج عملاء يعملون في الخفاء. وقد شاهدنا قبل أيام كيف تمكّنت الأجهزة الأمنية- بحزمها واستخدامها الجيد والمتقن لتقنية المعلومات والترصد - من إجهاض عمليات إرهابية. إن قوة بناء الجبهة الداخلية وأمنها جدار قويّ تستند إليه القوات المسلحة ويحمي ظهرها.
الدرس الثاني: أن هذا المستوى الرفيع من التنظيم والإتقان والفعالية كان حصيلة التركيز الطويل على مناهج تعليم متخصّص هادف وتدريب عمليّ مهني، ومهارات تمّ اكتسابها بحِرَفيّة وانضباط مع مواصلة التدريب. فهذا هو ما يتطلبه إتقان الشيء وإجادة فعله، من أكبر مرتبة عسكرية إلى أصغر مرتبة، ومن أعلى تخصص مهني إلى أبسط تخصص فنيّ؛ فإن كل واحد من هؤلاء من بداية دخول الكلّية أو المعهد الفني هو ابن المؤسسة العسكرية - دراسة وتدريباً وممارسةً، فعلى الرغم من دقة وحساسية المتطلبات العسكرية فإن الاحتياج موجود لكل مستويات الممارسة، ولكل مستوى منهج ملائم من التعليم والتدريب.
الدرس الثالث: أن المتطلبات ذات الطبيعة العسكرية نحتاج إلى مثلها في الحياة المدنية، لكي نحقق إنجازات مماثلة. ولا نرى أنه من الصعب تحقيق إنجازات بذلك المستوى في المجالات التنموية، لأن القائد الحازم الحكيم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- الذي أنجزت تحت قيادته عاصفة الحزم والنجاحات الأمنية الأخرى، هو نفسه القائد الذي يوجّه قافلة التنمية والتطور في هذه البلاد. المطلوب من الأجهزة المسؤولة عن تنفيذ خطط التنمية هو إدارة الإنجاز في ضوء أهداف واضحة ومن خلال منهج قويم يقود إلى تحقيق هذه الأهداف. ولا جدال في أن الإمكانات المالية والتقنية متوافرة بقدر ممتاز، ولكن التنفيذ يتولّاه الأشخاص. ولن تنفع أيّ أموال أو أدوات عمل أو حاسبات مهما كانت وفرتها وكفاءتها إذا لم يتقن الأشخاص استخدامها وتسخيرها لخدمة الأهداف التنموية. دور العنصر البشري هو ما تتميّز به بيئة العمل العسكري، وهو ما ينبغي أن يكون مثالاً يحتذى في بيئة العمل المدنية. المطلوب هو تعلّم هادف وتدريب مستمر مع التعلّم، وتدريب مستمر على رأس العمل، واستزادة من العلم في أثناء التدريب. وليس فقط مجرد التدريب على تطبيق ما تعلّمه الفرد، بل على إتقانه وتطوير المهارات في أدائه وفهم أهدافه - وفوق ذلك كله التدريب على الانضباط في العمل وتقدير المسؤولية وبناء مهارات التفكير. هذه الصفات ليست طوبائية، بل هي لازمة لأن غياب بعضها يخذل كل جهد تنموي، سواءً كان ذلك في الخدمات أو العلوم أو الاقتصاد والصناعة. الصعوبة في اكتسابها لا تكمن في التدريب والمتابعة والمراجعة المستمرة في بيئة إنسانية، بل في إيجاد البيئة المحفزة التي تشمل احترام المجدّ ومكافأته وتشجيع المبادرات الجادة بتوفير مقومات النجاح وإعلاء القيمة الاجتماعية لثقافة العمل وتكثيف الأنشطة الرياضية ومسابقاتها. إن ما سبق ذكره ضربٌ من التجنيد الذي يلزمنا. فكما أن الوطن يحتاج إلى جنود للدفاع عنه وضمان أمنه، فإنه بنفس القدْر يحتاج إلى جنود للتنمية.