محمد بن عبد العزيز الفيصل
تمثل شخصية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- شخصية العالم الموسوعي الذي جمع مختلف العلوم والمعارف, وهذا ما يفسر النهضة الكبرى التي يعيشها الوطن في مختلف المجالات وشتى الأصعدة, فالملك سلمان بن عبدالعزيز يؤكد في أكثر من محفل أن العلم هو أساس النهضة, وأن الكتاب هو بداية مشوار المعرفة, مما يدفعنا عند ورود ذكره العطر أن نستحضر تلك الشخصيات التاريخية الخالدة التي قادت الأمة العربية والإسلامية لعقود؛ فمعاوية بن أبي سفيان وهشام بن عبدالملك وهارون الرشيد والمعتصم.. وغيرهم من القادة العظام تجمعهم قواسم مشتركة هي سبب نبوغهم ودخولهم موسوعة الزمن.
الملك سلمان بن عبدالعزيز؛ الرجل الذي أودع الله عنده تاريخ جزيرة العرب يتمتع بصفات خاصة أهلته ليكون قائداً، وزعيماً فذّاً، ومصدر فخر واعتزاز لهذا الوطن.
كيف لي أن أحلل شخصية إنسانية متميزة بحجم الملك سلمان بن عبدالعزيز؛ فالقراءة المتأنية لهذه الشخصية تحيلك إلى ذلك الرابط الكبير الذي يجمعه بشخصيات الخلفاء والزعماء المبرزين؛ فشخصية سموه علاوة على الصفات العربية الأصيلة التي تجتمع فيها كالحزم والعزم والكرم والقوة والشجاعة والحلم والعلم والأناة والمروءة والنبل، إلا أن لها جانباً مشرقاً لا يكون إلا عند أولي العزم من الرجال؛ فسلمان بن عبدالعزيز عالمٌ موسوعي جمع أطرافاً متعددة من العلوم والمعارف الشرعية والعربية؛ يتسنمها التاريخ، فسموه يُعَدُّ مرجعاً مهماً في تاريخ جزيرة العرب، فخبرته استفادت منها الجامعات والأقسام المتخصصة ومراكز البحوث التي كان لسموه الفضل في تأسيسها، ولنا أن نتخيل شخصية بحجم سلمان بن عبدالعزيز، وما يحيط بسموه من المهام والمسؤوليات الجسام التي لا تنتهي؛ يزاحمها عملٌ دؤوب منذ ساعات النهار وحتى مشارف الساعات الأولى من الليل، هذا الانشغال اللامحدود لم يكن حائلاً دون إبحار سموه في الجوانب العلمية والتاريخية، حيث أدرك في وقت مبكر أن توثيق التاريخ والبحث من أسمى الأعمال الإنسانية فهو مؤشر لرقي الأمم والمجتمعات؛ لذا فقد عمل سموه على إنشاء عدد من المراكز المتخصصة في مجال التاريخ وحفظ التراث، من أشهرها دارة الملك عبدالعزيز التي كان لها جهد استثنائي في حفظ التراث والإرث الإسلامي والعربي، وقد أنشئت عام 1392هـ. ولا ننسى أيضاً جهود سموه المتتالية في هذا المجال، فقبل ثلاث سنوات أعلن سموه إنشاء مركز تاريخ مكة المكرمة ليدشن موسوعة الحج والحرمين الشريفين بمقر جامعة أم القرى عام 1429هـ، ولنا أن نستحضر حجم العمل والجهد والمتابعة الذي يمكن أن يصدر عن هذه الجهات العلمية المتخصصة.
مكتبة سلمان
مع يقيني بأن حجم المخزون الفكري الذي يمتلكه سلمان بن عبدالعزيز مرجع تاريخ جزيرة العرب، والذي لا يمكن أن تضاهيه أو تغني عنه أضخم المكتبات وأكثرها أهمية؛ إلا أن سموه أدرك مبكراً أهمية وجود المكتبة، فهي البصمة التي يمكن أن تقرأ العالم من خلالها، وهي لازمة لأي عالم أو زعيم شهد له التاريخ أنه مر من هنا. فالنعمان بن المنذر ذلك الملك العربي المثقف، الذي عاش قبل الإسلام في عصور الجاهلية والجهل أنشأ مكتبةً ثرية شهدت له قبل خمسة عشر قرناً بالعلم والمعرفة، لتصنف الآن أصلاً من أصول المصادر الأدبية كونها تحوي شعراً مكتوباً في صحائف؛ للشعراء الذين يفدون إلى بلاط المناذرة ويمدحون ملوك الحيرة، وعلى امتداد التاريخ، فجل خلفاء المسلمين وقادة العرب المبرزين وَرَّثوُا مكتبات ضخمة حفظت تراث العرب الذي نتداوله الساعة، فمكتبة خالد بن يزيد بن معاوية تحكي لنا اليوم عن تاريخ أوائل زعماء بني أمية؛ وعن رحلته في الاهتمام بالعلم والتراث، وقد ذكرها الجاحظ بقوله: (وكان خالد بن يزيد بن معاوية خطيباً شاعراً وفصيحاً جامعاً وجيد الرأي كثير الأدب). ولا ننسى مكتبة الخليفة الوليد بن يزيد بن عبدالملك التي جمعت أشعار العرب وأخبارهم. والتاريخ يشهد لهذه الفئة من القادة والولاة الذين وصلت الدولة الإسلامية في عهدهم إلى أوج ازدهارها، فالعلم هو المعيار الأساس لنبوغ الشخصية وعلو شأنها.
حديثنا في هذا المقال عن مكتبة المؤرخ والموسوعة الوطني والاستثنائي سلمان بن عبد العزيز التي تقع في قصر سموه بالمعذر فهي من النماذج المضيئة التي يُقتدى بها في هذا الميدان، فيذكر الدكتور عبداللطيف الحميد في كتابه (سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - سيرة توثيقية): أنها تتألف من قاعتين رئيستين وقاعة ثالثة منفصلة هي بمثابة مكتب خاص للعمل والمطالعة، جميعها جهزت بأثاث موحد؛ بالإضافة إلى ثلاث غرف مساندة للأعمال الفنية والتخزين بمساحة إجمالية تصل إلى ثلاثمئة متر مربع، وكما أن القاعة الأولى جهزت بقاعات تخزين من خشب السنديان لونها بني غامق متصلة الجوانب، وبعضها مغلق بزجاج وقد حفظ داخل الأرفف المراجع والكتب الكبيرة وبعض التحف، وفي هذه القاعة مكتب قراءة كبير تعلوه صورة الملك عبدالعزيز وحولها خريطة قديمة للجزيرة العربية، كما يحفظ في هذه القاعة مخطوطة مؤطرة لآيات من سورة الفتح، منسوخة على الرق بالخط العربي أهديت لسموه من ملك المغرب محمد الثاني، وفي قاعات المكتبة نضد متفرقة في الزوايا وضع عليها بعناية مجموعة من المقتنيات المتحفية الخاصة ذات الصلة بالتراث الشعبي السعودي من الأواني والمباخر والدلال والسيوف العتيقة، وبعض تلك السيوف كان ينسب إلى أصحابها من أسلاف آل سعود، فمكتبة سموه تزخر بعبق التراث الأصيل. أما القاعة الثانية فهي مخصصة لحفظ معظم المقتنيات التراثية، ويمكن للزائر أن يعبر إليها من خلال باب مزين بالكتب، وهذه القاعة امتلأت بالكتب، فأرففها السبعة تستمر حتى السقف العلوي، وتزخر بأنواع الكتب العامة، وكتب علوم الشريعة والتاريخ والتراجم. أما الكتب الخاصة بتاريخ المملكة والإسلام والشؤون الإدارية والسياسية والاجتماعية وبعض الموسوعات والرسائل الجامعية والدوريات وغير ذلك من المراجع والموضوعات، فهي مسجلة على الرفوف المفتوحة المرقمة ليسهل الوصول إليها.
أما نشأة مكتبة الملك سلمان فيعود إلى بدايات سموه الأولى عندما كان طالباً للعلم؛ وقد كان مفتوناً بالقراءة والمطالعة والبحث في مصادر المعلومات، فقد انتظم سموه في مدرسة الأمراء وختم القرآن الكريم وهو لم يتجاوز العقد الأول من عمره، حيث تلقى تعليمه الأولي في مدينة الرياض، وكان يقتني المصادر ويحتفظ بها منذ صغره، ويذكر الدكتور الحميد أن آخر إحصائية للمصادر والمراجع التي تضمها مكتبة سموه كانت عام 1419هـ لتربوا على العشرة آلاف وستمئة عنوان ومن ضمن هذه المقتنيات مخطوطة نادرة من صحيح البخاري نسخت في القرن الثالث عشر الهجري.
وتضم المكتبة أيضاً الكتب الدينية من المجاميع الأساسية والمراجع الإسلامية في مختلف علوم الشريعة بالإضافة إلى المصاحف الفاخرة ونسخ نادرة من بعض الكتب مثل كتاب: عبدالعزيز بن عبدالرحمن، طبعة الكعكي، وكتاب: بطل الجزيرة: ملحمة شعرية وتاريخية وطنية تدور وقائعها حول بطولة الملك عبدالعزيز آل سعود، حيث طبع من الكتاب خمسون نسخة عام 1957م، وهو من الحجم الكبير، وقد طبع على ورق كتان مزوق الحواشي، بالإضافة إلى كتاب صقر الجزيرة الذي يتكون من سبعة أجزاء متوجة بإهداء من المؤلف، وطبعة فاخرة مذهبة ونادرة من ديوان المتنبي نشرت في باريس، كما تحوي المكتبة طبعات خاصة من كتب ابن تيمية كاملة، وكتاب الرسائل والمسائل النجدية وفتاوى العلماء والقاموس المحيط، وكتاب الأعلام لخير الدين الزركلي ومعجم البلدان، والسيرة النبوية، وسيرة أعلام النبلاء، إلى جانب عدد من الدوريات الكاملة كمجلة المنهل، ومجلة العرب، ومجلة الرسالة، ومجلة الأمة، ومجلدات الصحف كصحيفة الجزيرة، والرياض، وأم القرى، وعدد من المجلات العربية القديمة.
والجدير ذكره أن مكتبة سموه تزخر بجمع من المراجع الأساسية في علوم السياسة والإدارة قديماً وحديثاً، بالإضافة إلى الأبحاث والتقارير والرسائل الجامعية التي تتناول الموضوعات التي تهم سموه مثل السياسة والأمن والتطوير الإداري والتاريخ المحلي والشؤون العربية والدولية والخيرية والإنسانية.
كما أن المصادر التي تتعلق بتاريخ المملكة قديماً وحديثاً لا تغيب عن مكتبة سموه، بالإضافة إلى المراجع التي تتناول سيرة الملك عبدالعزيز. ولا عجب أن تكون مكتبة سموه بهذا التنوع والزخم الكبير في مختلف المجالات، فسموه تأثر كثيراً بشخصية والده الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن - طيب الله ثراه- وكان لهذا التأثر الأثر الإيجابي في حياة سموه في مختلف المجالات العلمية والعملية والسلوكية، حيث يقول سموه مؤكداً ذلك: (عرفت أنا وإخواني ونحن شباب أن والدنا المؤسس الملك عبدالعزيز كان يحرص على الشباب وقضاء أوقاتهم فيما ينفع وأداء الصلوات في أوقاتها، فقد كان يحبس الواحد منا الذي يتأخر عن الصلاة معه في المسجد أو عن الدراسة في غرفة صغيرة داخل قصر المربع، تربينا على يد عبدالعزيز ونحن شباب على الالتزام بالدين، وحسن التعامل، والعمل بجد والصبر والإخلاص.
وللملك عبدالعزيز مواقف كثيرة شجع فيها الشباب من أبناء وطنه وحثهم على العمل وعدم الكسل، فقد أشار خير الدين الزركلي إلى أن أحد الشباب تقدم إلى الملك عبدالعزيز طالباً أن يعطيه بعض النقود مع بقية الفقراء والمساكين ولاحظ الملك أنه شاب قوي ونشط فسأله الملك: فيك مرض؟ فقال له الشاب: لا، فقال له: أنت شديد وشاب، اذهب إلى الأمير منصور وادخل في الجيش.
أراد عبدالعزيز لهذا الشاب أن يتحمل مسؤوليته وليس عدم مساعدته، فعبدالعزيز عرف بإحسانه للجميع من المحتاجين من أبناء وطنه دون استثناء. وهاهو الأمير سلمان يسير على خطى والده في تشجيع الشباب وحثهم على الجد والاجتهاد وتطوير الذات، فقد أسس سموه العديد من الجهات التي ترعى الشباب وتوجههم وتنمي قدراتهم. فمركز الأمير سلمان للشباب نموذج مضيء من النماذج التي زرعها سموه والتي سيحصد ثمارها شباب هذا الوطن قريباً، فالأمير محمد بن سلمان رئيس مجلس إدارة مركز الأمير سلمان للشباب أكد في تصريح له أن هذا المركز نابع من حرص الأمير سلمان على فئة الشباب واهتمامه الكبير بهم.
كاريزما سلمان
تتميز شخصية الملك سلمان بكاريزما غير عادية، فسموه محبوب من قبل أفراد الشعب كافة ومختلف طبقاتهم الرجال والنساء والشباب والأكاديميين، وهذا الحب الكبير لسموه نتيجة اهتمامه بهذه الفئات كافة، فمنذ خمسين عاماً وسموه يستقبل المواطنين في قصره بالمعذر مساء كل يوم أحد، بالإضافة إلى استقباله اليومي لهم في مكتبه بالإمارة عندما كان أميراً لمنطقة الرياض، وكما أن سموه يحرص على حضور المناسبات الاجتماعية ليبتعد عن جميع الرسميات المتبعة ليشارك إخوانه وأبناءه المواطنين أفراحهم وأحزانهم.. هذا هو سلمان وهذه هي شخصيته الاستثنائية، حفظ الله خادم الحرمين الشريفين وأعانه على تحمل المسؤولية.