د. محمد البشر
لعل من المناسب نقل شيء من طفولة أحمد بن شهيد الوزير، والشاعر، والناثر، الأندلسي المشهور، كما رواها بنفسه. هناك قصتان طريفتان حدثتا لأبي عامر أحمد بن شهيد في طفولته تدل على مكانة أبيه لدى الحاجب المنصور العامري، يوردهما لنا في إحدى رسائله، ففي القصة الأولى يذكر أنه ذهب مع والده في يوم مطير وعمره لم يتجاوز الخامسة إلى الحاجب المنصور، فرأى تفاحة فتاقت نفسه إليها غير أنه لم يستطع تقطيعها بأسنانه، فأخذها الحاجب المنصور منه، وأخذ يقطعها قطعاً صغيرة بأسنانه ويضعها في فم الصبي، وبعد ذلك دعا أحد أبنائه وأمره بأخذ الصبي أحمد بن شهيد إلى داخل القصر، وكان الجو ماطراً، فرفعه الخدم على الأكتاف حتى وصل بين يدي زوجة الحاجب المنصور، فأقعدته على سريرها وأمرت له بألف درهم من عندها، وثلاثة آلاف من عند زوجها، غير أن والده أخذ المبلغ منه خشية تفريقه على الصبيان، وقام بتفريق بعضها على خدمه، ونقل ما بقي إلى خزانته، ولما علم الحاجب المنصور بذلك أرسل إليه خمسمائة دينار وأقسم على والده ألا يأخذ منها شيئاً، وأن يتركها للصبي يفعل بها ما يشاء.. وقد سطّر ابن شهيد هذا كله في رسالته إلى المؤتمن عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن الحاجب المنصور في نسج بديع، وقال فيه:
«إني صرت بين يدي المنصور في يوم مطير، وأنا ابن خمسٍ، أذكر ذلك ذكرى لما كان بالأمس، وكان من إكرامه لي، ولطيف اهتمامه بي ما يطول به الكتاب، ولا يحتمله الخطاب، وعينه ومحضه، وصريحه وزبده: أنه وهبني يوماً تفاحة كانت بين يديه كبيرةً، ورآني أنظر إليها نظر الكلف، وأتأملها تأمل الشره، فأمرني بالقبض عليها والعضّ فيها، فضاق فمي عن أن أحيط بجزء من أجزاء كرتها، وصغرت كفي عن أن تقبض إلا بمخنق من مخانق أنحائها، فجعل يقطع لي بفمه، ويطعمني على حكمه، ودعا الناصر ومعه فتى سمعتهم يكنونه أبا شاكر، فقال له: احمله إلى أمك، وارفق به في أمك، فأخذا بيدي أمامه، وابتدرا يسيران بي قدامه، وأنا لا أسمح في القياد لشدة ذلك الوابل، وتتابع قطر ذلك الهاطل، فصاح بهما: أقلاه فاحملاه على أعناقكما، وسوقا به سوقاً رفيقاً أحسن من مساقكما.. فلفّا أعضادهما لفاً، ووصلا أذرعهما بأعناقهما وصلاً، وامتطيت العاتق الكريم، على عين الملك الزعيم، امتطاء امتنان، لا امتطاء امتهان، ومرا بي حتى أنزلاني بين يدي السيدة، وإليها أمر كل قيمة، فاستوت على سريرها، وعلى مفرقها إكليل من مهابة أميرها، فلا أنسى ذلك البهاء في ذلك البهو، وذلك الحسور إلا من قناع الزهو، وطار الخبر بقدومي في مقاصير العقائل، وحجرات الكرائم، فأسرعن من تلك المصانع، تطير بهن أجنحة الصنائع، فيا لها من كسى وخلعٍ، وغرائب وبدعٍ! وأمرت السيدة بألفٍ تحمل معي عن نفسها، وثلاثة آلاف عن سيدها، فانصرفت بالغنى، من ذلك الجنى، ولم أصرف إلى المنصور حتى صرت عند أبي، وقد ظننت أنه متجافٍ عنه لي، أو تاركٌ منه معي، وكانت لي فيه آمال من التوزيع على الخدمة والعمال من الصبيان وصبايا الجيران.. فأمر ففرق منه على بطانته، وأشار بحمل باقيه إلى خزانته، فظللت واجماً، وطفقت راغماً، أطفئ جمرتي فتذكو، وأخفي من لوعتي فتبدو. وبلغ ذلك المنصور، فوجه نحوي بخمسمائة دينار، وأقسم على أبي ألا يمنعني منها، وأن يدعني بحكمي فيها، فبادرت بالركب والرجل، وأخذت في العطاء والبذل، وحبوت بأجزل الحباء، والخيل إذ ذاك نخب من قصب، والدرق قشور من خشب، فيومي مذكور في منية المغيرة (منتزه) إلى الآن، إذ كان مسكننا بدار ابن النعمان». كما يذكر في الرسالة فضل الحاجب المنصور على أخيه الطفل موسى، حيث طلبه المنصور من أبيه ليعيش مع أهله وذويه، فعاش عند المنصور حتى توفاه الله فيقول: «وأغربها مآتةً، وألطفها وصلةٍأن أخي موسى انتزعه المنصور من أبيه، وأحله محل بنيه، فاجتمعت الأفواه على الثدي، والتفت الشفاه على الدر المري، وقبضه الله إليه وقد رتع في مراتعكم، وجثم في مضاجعكم، فنحن عمّار مقاصركم أحياء، وقطان مقابركم أمواتاً، جمعنا بذلك عشرة العاجلة والآجلة، وحصلنا على صحبة الدنيا والآخرة».. ويذكر لنا في القصة الثانية ما حدثت له مع الحاجب عبد الملك المظفر بن الحاجب المنصور، بعد أن زهد أبوه في الدنيا وترك ملذاتها، بعد مرض ألمَّ به وبرأ منه، وأنه حلق رأس ابنه الصغير أحمد وهو في الثانية من عمره، ونزع عنه ثيابه الحرير، وألبسه الخشن من الثياب، فعلم المظفر بذلك، فاستقدمه إليه، فأمر بإلباسه الحرير، وضمّخ بالطيب، وحمل على فرس وأردف ذلك بألف دينار في طبق، وعقد له على الشرطة حتى لا يجعل لأبيه سبيلاً عليه.. هكذا عاش أحمد بن شهيد، وبعد تلك الطفولة حدثت له أحداثٌ جسام، سطَّرها المؤرخون لتكون نموذجاً من أحد عصور الأندلس الثرية بالأدب والعلم.