د. محمّد بن عبدالرحمن المفدّى
تسعى الجهات الموكول لها الإشراف على التعليم عندنا جاهدة للترقي في سلمه منذُ عشرات الأعوام وما زالت تواصل السعي الحثيث، فهل وصلت إلى هدفها المنشود أو قربت منه؟
دراسة حاضرها لا تعين على أن يكون الجواب: نعم.
ولا إنكار للمحاولات الطُمُح اللاتي أنجزت للصعود بالتعليم في مرحلتيه: العالية والعامة، ولا جحود لما أنفق في سبيل ذلك من الأموال السخيّة، لكنَّ التوفيق بيد الله كما قال شعيب - عليه الصلاة والسلام -: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (88) سورة هود.
على المرء أن يسعى إلى الخير جهده
وليس عليه أن تتمّ المقاصد
الحامل لي على كتابة هذا المقال نقاش سمعته في مجلس أحد الفضلاء ضمّ طائفة من ذوي التأهيل العالي شمل الحوار مشكلات التعليم الجامعي والعام، وكان واقعيًا مفصّلاً لم أشارك فيه بكلمة واحدة: فضّلت الإصغاء لأ لُمَّ شتاته مستوعبًا مرامه مستنيراً به، فقد كان هذا الموضوع شغلي وهمّي منذُ عام (1381هـ): ناقشته وكتبت فيه.
واليوم أعود إليه بعد أن مرّ التعليم في مرحلتيه بأطوار متغيِّرة مستعينًا بالله معتذرًا لمن يعنيهم هذا الحديث فقد يرد فيه عن حسن نيّة ما لا يرضيهم.
وقبل الولوج في معالجة المشكلات أذكر أمورًا ينبغي الاعتراف بها والتسليم:
الأمر الأوّل: التعليم عندنا بخير وليس من السوء بحيث ّيجب الانزعاج، نعم: فيه نقائص تتعيّن معالجتها بالحسنى.
الأمر الثاني: لا نتوقّع الوصول إلى درجة نرى فيها جميع الطُلّب وقد وصلوا إلى قمّة التعليم؛ فقد خلق الله عباده متفاوتين في الأهواء والعقول.
الأمر الثالث: ينبغي أنْ لا نبالغ في الطموح فنتوقع أنّنا سنقضي قضاءً مبرمًا على المشكلات والمعوِّقات جميعها لأنها تتجدد بتجدد الزمن وتتغيُّر بتغير طبائع المتعلمين والأساتذة والمعلمين والمعلمات ومتغيِّرات المجتمع.
فإذا سلّمنا بتلكم الأمور - ولا بدّ من ذلك - فسوف يكون العلاج سهلاً ميسورًا بتوفيق الله.
وها أنا ذا أشرع في عرض المشكلات وحلولها مستعينًا بالله مستفيدًا مما سمعته في ذلكم المجلس:
أولى المشكلات: الاعتماد على الشركات.
تلجأ وزارتا التعليم العالي والتربية والتعليم - قبل دمجهما- والجامعات إلى إسناد كثير من أعمالها التعليمية والتربوية والعلمية والإدارية للشركات.
وهذا الصنيع لا يُلجأ إليه إلا لأسباب اضطرارية:
منها العجز عن القيام بالعمل على الوجه الأفضل، وأستبعد هذا السبب لحسن ظنّي بأصحاب القرار والعاملين في هذا المجال لأنهم قادرون على حمل العبء لتوافر الرغبة والوسائل المعينة: من المال والرجال والنساء.
ومنها: الرغبة في تقليل التكاليف المالية، وليس لهذا السبب ما يعين على قبوله فما ينفق في هذا الميدان مع وجود الشركات أعلى وأكثر.
ومنها: البحث عن جودة الأداء والنتائج الفُضلى، وهذا أمر غير مسلَّم به فلا جديد ولا مزيد؛ يومنا كأمسنا أو أدنى، فليست هذه الشركات خيرًا من العاملين في هذا الميدان: خبرتها محدودة وجدّيّتها متواضعة واعتمادها على غير السعوديّين غالب، ربّما استعانت بنفر من السعوديين العاملين في هذا الميدان، هل يُتَوقّع أن يكون أداءهم مع الشركات أفضل منه مع الوزارتين والجامعات ؟. إن كان الجواب: لا، فما أقوله صحيح، وإن كان نعم، فلِنفتّش عن السبب.
ومنها: حبّ التخلّص من أعباء العمل والتخلّي عن المسؤوليّة وتحميلها آخرين، وأنا أذكر هذا السبب على سبيل الاستقصاء وعرض جميع المحتملات: قريبها وبعيدها، وهو من أبعدها.
ومنها: السعي إلى إرضاء ذوي الكفايات المتميّزة برفع دخولهم بالمكافآت تقديرًا لكفايتهم، وهذا صنيع حسن لكن له سلبياته الظاهرة لأنه قاصر على أشخاص مختارين بمعايير لا تُعرف، ومن ثم تثور الغيرة عند كثير من أمثالهم وشركائهم في المهنة وقد يكون فيهم من هو أكثر كفاية.
ثانية المشكلات: كثرة أعداد الطُلّب في الفصول والمدرّجات.
ذلكم - ولا شكّ - له تأثيره الظاهر البالغ على حسن الأداء وجودته وهو أيضًا مما يحدّ كثيرًا من قدرة الأستاذ والمعلمَينِ في أثناء المحاضرات والدروس ومراجعة أعمال أبنائهم وبناتهم التطبيقية المنزلية: بحوث أو تدريبات إن وُجِدت - ويجب أن توجد - لتعريف الطُلّب ما فيها من صواب أو خطأ، فكل ما كان العدد أقلّ صار الأداء أجود.
وقد يحول دون تقليل العدد معوِّقات جمّة، لكن ينبغي أن يتّخذ هدفًا يسعى المعنيّون إلى الوصول إليه.
ثالثة المشكلات: الأستاذ والمعلمان
لم يخلق الله مخلوقًا كاملاً في جميع صفاته مستغنيًا عن غيره في كلّ شؤونه، كل حيوان ضعيف وإن كان في غاية القوّة في نظرنا واسع المعرفة في ما نرى، ضعيف بفطرته «. .... وخُلِق الإنسان ضعيفًا « 28 النساء 4 محدود المعرفة بطبعه «. .... وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً « 85 سورة الإسراء 17 «. .... ويخلق ما لا تعلمون « 8 سورة النحل 16 فعلى المرء والمرأة أن يسعيا جاهدين للتزوِّد بأنواع المعارف وبخاصّة ما له صلة بتخصّصهما؛ فالعلم لا حدّ له يقف عنده، لا يليق بعاقل أن يقول: اكتفيت بما عرفته أو أن يصدّّق إعجابه بنفسه فيظنّ أنه وصل الغاية، والغاية بعيدة المنال.
ألسنا نجتهد ونتسابق إلى الظفر بأحسن المطعم والمشرب والملبس والمركب والمسكن!
ما بالنا نتنافس في كل شيء حتى إذا جاء العلم إذا فريق منّا مخلدون إلى الدعة والخمول قانعون بما أدركوا، لا طموح يحملهم على طلب المزيد ولا هِمّة تدفعهم إلى التميُّز، هؤلاء جديرون بأن توضع لهم الخطط العملية الّتي تعينهم على تغيير أحوالهم توقظهم من هذا النوم العميق المسيطر على أكثرهم.
يخطر على بالي أنواع من الوسائل تعين على علاج هذه المشكلة لعل أحراها بالنفع إن شاء الله:
1- تنظيم دورات سنوية، في كل عام دورة واحدة مدّتها ثلاثون يومَ عمل تؤدّى في المساء: ساعتان في كل يوم وتُصنَّف بحسب التخصصات: لكل تخصص دورة ينتقى المنفِّذون لها من ذوي التميّز وذواته ويبنى اختيارهم على معايير معدة بعناية وواقعية ويُفضل أن يكونوا من أساتذة الجامعات ولا يجب.
ومن المفيد بل من المفضّل أن تتضمن هذه الدورات الموادّ المقرّرة فثمّت عدد من المعلمين والمعلمات يستشكلون بعض الجمل: إمّا لخلل في تركيبها وإمّا لغموض في معناها، في مقرّرات النحو مسائل يخفى المراد منها وبخاصّة في التطبيقات، وقديمًا كانوا يعدّون كلمة (مع) حرف جرّ، وهو قول ضعيف جدًّا ولا أدري أصُحِّح هذا الخطأ أم لا يزال؟ تنتهي الدورة باختبار نظري تطبيقي.
وشرط اجتياز الدورة حصول الدارسين والدارسات على 70% بحسب وثيقة موثّقة رسميًّا ويكافأ من يجتازها بزيادة درجة في سلّم الرواتب وتخفيض ساعتين من نصابه التعليمي مدّة فصلين.
2- يكلّف المعلّمان إنشاء بحث في تخصّصهما تقوِّمه لجنة مكوَّنة من ثلاثة من المتخصّصين على أن يكون لهذه البحوث تأثير على تقويم الأداء السنويّ.
رابعة المشكلات: المناهج
ما يُرى بصورة ظاهرة من عدم استقرار المناهج وكثرة ما ينالها من التغيير وتعاقب التجارب والجري الحثيث للبحث عن كل جديد طمعًا في إدراك الهدف المجهول، وهو الأمر الذي قادنا إلى الحيرة والخوض في نظريات جمّة متعارضة، منها الجديد الّذي لم ينضج فإذا أخذنا به لم نلبث زمنًا قصيرًا حتّى يتبيّن بجلاء إخفاقه وتراجع أصحابه عنه ونظلّ مستمسكين به بكل إصرار.
أو نعود إلى نظريّات سالفة العهد فنستخرجها من ملفاّتها فرحين مسرورين كأنّما عثرنا على خير كنز، وبعد التطبيق وإنفاق الأموال نفاجأ بخيبة الظن، ومع ذلك لا نجد الشجاعة على أن نعترف بالإحباط وخطأ الاختيار.
من الحقائق الثابتة أن لكل أرض نباتاتها الّتي لا تزدهر في غيرها ولكل مريض علاجه الّذي لا يلائم مريضًا آخر، بل لكل مرض دواؤه الخاصّ به لا نستطيع تطبيقه على مريض آخر وإن كان المرض واحدًا.
المناهج تعاني عيبًا آخر شديد التأثير على المتعلمين والمتعلمات، ألا هو ضآلة محتواها العلمي والتطبيقي، فكثير منها لا يستحق أن يسمّى كتابًا إنما هي ملخّصات نفعها قليل، ومع هذا فربّما لجأ المعلم والمعلمة والأستاذ إلى تلخيصها أو تجاوز بعض موضوعاتها.
رجعت قبل أيّام إلى مقرر اللغة العربية في السنة الأولى بالمرحلة الثانوية المسمّى: الكفايات اللغوية. فوجدت ما يسوء الغيور على هذه اللغة ويسر الشامت:
النحو محصور في علامات الإعراب في أبواب قليلة جدّا، ولا التفات إلى أحكامها التركيبية الّتي لها أثرها الّذي لا يقلّ في أهمّيّته عن علامات الإعراب ولما لها من تأثير ظاهر في الحديث والكتابة والقراءة والفهم.
وكأن واضعي المنهج يرون أن النحو مقصور على أواخر الكلم.
وعلامات الإعراب من المبادئ الّتي يتعلمها الطلَّب في المرحلة الابتدائية.
ومما زاد العجب نبذ القواعد التي تمكّن الطلَّب من معرفة الأساس الّذي لأجله تكون الحركات.
والإعراض عن التعليل اللازم لإقناع الطلَّب بضرورة مراعاة الحركات الإعرابية في الحديث والقراءة والكتابة.
ولما تحوّل واضعو المنهج إلى الكفايات الأخرى - بحسب تسميتهم - ومن بينها المحسِّنات الكتابية والإملاء التفتوا إلى القواعد والتعليل وأعطوهما كثيرًا مما يستحقّانه من ذينكم مع أن المحسِّنات الكتابية أمور اجتهاديّة ليست ضوابطها مسلّمًا بأكثرها، ويمكن أن يمارسها الطُلَّب في الإنشاء والإملاء.
زِد على ما مضى أن هؤلاء ( الكفايات ) الأربع أخذت من الوقت النصيب الأعظم: أحد عشر أسبوعًا من خمسة عشر أسبوعًا.
نعم: ما فُعِل بهذا المقرر أكثر مما يحلم به خصوم اللغة العربية، ظنّي الحسن أنه صادر عن اجتهاد وحرص، لكن: (من الحبّ ما قتل) وحسبي أن أقرأ: «. .... إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله..... «
وفقد التطبيق أو قلّته من العوامل اللاتي لها إسهامها في نقص التحصيل واستيعاب المعلومات، بل نفور الطُلّب منها.
قد أجد عذرًا لهذه السلبيات يتمثّل في قلّة الساعات وازدحام الخطة بالمقرّرات، وهو عذر لا تُنكر وجاهته ولا بد من معالجته، وفي حديثي عن الخطط ما يعين على تلافيه.
وأيسر الوسائل المتاحة لعلاج هذه المشكلة وأقربها يتمثّل في العدول عن هذا المسلك القائم على الرغبة في استبعاد كثير من المعلومات اللاتي لا يستغنَى عنها لتأهيل الدارس والدارسة تأهيلاً جيدًا في مراحل التعليم العامّ والعالي، وليس مقبولاً أبدًا أن يقول واضعو المناهج: نكتفي بهذا ونترك الباقي لمن بعدنا أو يقولوا: الطُلَّب غير قادرين على استيعاب المزيد، فهذا الصنيع اتّكالية بحتة ومصيرها إلى الإخفاق والخسران.
ما يُرى من نقص في تحصيل أبنائنا وبناتنا العلمي والتطبيقيّ الّذي هو مُثير الشكوى مرجعه إلى هذه المناهج المختزلة ومنشؤه منها.
ومما ينبغي مراعاته ويفضل العمل الجادّ لتحقيقه أن تكون المقرّرات شاملة لأصول المادّة وفروعها بحسب الإمكان.
وعند تأليف الكتاب المدرسيّ واختيار المرجع الجامعيّ يتعيّن إسناد هذه المهمة إلى المتخصّصين الّذين هم في الميدان الممارسين للتعليم ذوي الخبرة الطويلة لا إلى المكتبيّين والتنظيريّين.
وكيْ أكون واقعيًّا عاملاً بما أدعو إليه أذكر أنني في هذا الحديث أتكلّم على العلوم النظرية.
أما العلوم التطبيقية فأدع الحديث عنها لأهلها، وإن وجدوا في مقالي ما يمكن أن ينتفعوا به فلهم تقديره وتطبيقه.
عند تأليف أي ّكتاب مدرسيّ أو اختيار أيّ مرجع جامعيّ تتعيّن مراعاة الارتباط الوثيق بين الموضوعات وبناء كل مسألة على ما تقوم عليه من المسائل الأخرى: لا يُقدّم الفرع على أصله ولا يُطَّرح ذلك الأصل ثم يُذكر فرعه.
كثير من التربويين يرون المحافظة على أسماء العلوم التراثية الموروثة من الأجيال القديمة له إسهام في ما يعانيه كثير من الطُلَّب في الجامعات والتعليم العام من نقص في قدرتهم على الحفظ والفهم وما يظهر من كثير منهم أيضًا من قلّة الرغبة في أولئكم العلوم.
وهذا ظنّ أثبتت التجربة أنه غير صحيح، حوّلوا اسم العلوم الدينية إلى التربية الإسلامية ونبذوا أسماء علوم اللغة العربية: النحو، التصريف أو الصرف، الأدب ، النصوص، المطالَعة أو القراءة، الإنشاء ، البلاغة، الإملاء.
واستعاروا مكانها أسماءً جديدة من أقلام الصحفيين وأفواه الإذاعيين فما أغنى عنهم هذا الصنيع مثقال ذرّة، وفي عام غابر سُمِي الإنشاء: التعبير أو التحرير فلم يعد هذا الفعل على الطُلَّب بطائل، إن هذه الأفعال مظهر من مظاهر الحيرة في طريق البحث عن الهدف ومصيره إلى فصل الجيل العصريّ عن تراثه الموروث حتى يمسي ذلكم التراث غريبًا منكرًا.
ومن واجبات الأستاذ والمعلم والمعلمة تنبيه أبنائهم وبناتهم إلى ما يسمعونه أو يرونه من إقحام الكلمات الأعجمية في أثناء أحاديثهم أو كتاباتهم بلا مناسبة داعية أو حاجة ماسّة؛ فاللغة العربية ثريّة بمخزونها من الكلمات غنيّة بروائع مفرداتها عن الاقتراض من غيرها، ولكي يكون التنبيه مجديًا يلزم الأستاذ والمعلم والمعلمة أن يكونوا قدوة في هذا الجانب، يمارسون ما يأمرون به ولا يقعون في ما ينهون عنه.
والتحلّي بالأمانة خلُق سامٍٍ وحِمل ثقيل عظّم الله شأنه: «إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها وأشفقنَ منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً « 72 الأحزاب 33 «يا أيّها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون « 27 الأنفال 8
وثمَّت عيب آخر يظهر جليًّا في مقرّرات اللغة العربية إنه التعويل التامّ على الجمل المولَّدة المصنوعة وهو مأخذ شكا منه أهل الغيرة قديمًا لما يورث الألسنة من العِيّ وما يطبعها به من العجز عن مساماة الفصحاء في أساليبهم، ولما يظهر في تلكم الجمل من اللحن في تركيباتها وإنْ اجتهدوا في العمل لتصحيحها إعرابيًّا، فالّلحن في التركيب أخفى وأشد من اللحن في الإعراب.
خامسة المشكلات: الخطّة الدراسيّة
من يستعرض الخطط في التعليم العامّ أو في الجامعات يراها مثقلة بمقرّرات ثانوية الأولوية، لا أقلل من أهمّيّتها ولا أهوِّن شأنها، لكنّ حضورها يجور على ما هو أكثر منها ضرورة يقاسمها الحصص والساعات ومن أجلها يكون الاختصار في المقررات وتخفيف الأداء وتفرض العجلة نفسها على المعلِّمَينِِ والأستاذ، ومن هنا نبدأ:
يحسن بنا أن نعتمد على التخصص من أول عام في المرحلة الثانوية فنجعل لكل فئة من العلوم قسمًا مستقلاً يُعنى بصفة رئيسة بعلومه الخاصة، ولا أحدد نسبة معيَّنة الآن بل أدعها للدراسة المتأنية، ومبدئيًّا أرى أن لا تقلّ عن 75%.
وينبغي لكل قسم أن يأخذ من الأقسام الأخرى ما يلزمه من العلوم الّتي تعين على التخصص أو العلوم اللاتي لا يستغني عنها أيّ متعلّم لصلتها الماسّة بحياته وأعماله على أن يكون ذلك في حدود الضرورة، لا توسُّع ولا تضييق: « خير الأمور الوسط «
الحاسب الآليّ من الضرورات اللاتي لا يستغنى عنها اليوم، لكنّ معرفة تطبيقاته الدنيا ليست بالأمر المعضل، فلا موجب لتخصيصه بساعات ولو كانت قليلة، أعرف كثيرًا من الناس يستعملونه في شؤونهم الخاصّة لم يحتاجوا إلى معلّم، والراغبون في المزيد أمامهم مراكز الحاسب التجارية، والحاسب نفسه معلم: فيه من التعليمات ما يعين على استعماله بكل يسر.
أما دقائقه وتقنياته فمحلّها أقسام الحاسب المتخصِّصة.
أما اللغة الإنجليزية هذه اللغة الأثيرة الّتي عنينا بها أكثر من عناية أهلها بها وصرفنا لها كل الإعجاب وأعطيناها من اهتمامنا وعنايتنا كل ما نقدر عليه حتّى شغلت حيِّزًا من الخطط نحن في حاجة بالغة إليه لاستعماله في ما هو أكثر ضرورة.
نعم أقول: أنفقنا الساعات بإسراف ولم نجنِ من الثمار ما يعادل قيمة أولئكم الساعات، في كلّ عام من مراحل التعليم يتعلّمها الطُلّب فإذا أنهوا الثانوية وسافروا للدراسة في جامعات غير عربية احتاجوا إلى عام دراسيّ ليتعلموها مثلهم مثل الّذين يذهبون إلى جامعات ليست لغتها إنجليزية مع أن الملتحقين بها لم يدرسوا لغتها ألبتّة.
هناك خلل في تعليم اللغات غير العربية لا نجهله لكنّنا غير قادرين على تلافيه ألا هو أنهم يتعلّمونها بلهجة عربية، أعني أن المعلِّمَين ِلا يحسنان النطق الصحيح لأنهم تلقّوها من معلمين ومعلمات عرب.
لتعليم اللغات شرطان: أن يكون معلمها ومعلمتها من أهلها ثم الممارسة الدائمة، بهذين الشرطين يتلقّى الطُلَّب اللغة على أصولها وبنطق صحيح. ما نفعله إنما هو تلقينهم اللغة الأعجمية بأصوات عربية؛ ولأجل ذلك يجد المبتعثون والمبتعثات أنفسهم في حاجة بالغة لتصحيح ما تعلّموه في أوطانهم، ولا يجد المبتعثون إلى دُول لغتها الفرنسية أو الألمانية مثل ذلك.
وما قلته عن المعلم والمعلمة العربيَّين وسلبيّات تعليمهما اللغة الإنجليزية أقول مثله عن إسناد التعليم إلى معلمين ليسوا عربًا ولا إنجليز: آسيويّين أو أفارقة ولو كانوا يحملون الجنسية البريطانية أو الأمريكية؛ فإن ألسنتهم تبقى محتفظة بجذور لغتهم القومية، ألا ترون أن كثيرًا من هؤلاء يقيمون الأعوام الكثيرة في قطر عربيّ ويخالطون أهله وقد يتعلمون اللغة العربية تعليمًا منهجيّا ومع هذا تبقى مظاهر العجمة بادية في أحاديثهم، قيسوا هذا على ذاك.
هناك أمر آخر ذكره متعيِّن، ألا هو أن لتعليم اللغة أيًّا كانت لغير أهلها أصوله ومناهجه، فيجب أن يكون المعلِّمَينِ مؤهّلَين تأهيلاً عاليًا للقيام بهذه المهنة على الوجه المرضي.
ولما تقدّم ينبغي أن نتذكّر أمرًا بالغ الأهمّيّة ألا هو أنه ليس كل أمريكيّ أو بريطاني يستطيع القيام بتعليم لغته لغير قومه على ما ينبغي بل يجب أن يكون معدًّا لهذه المهنة إعدادًا جيّدًا.
أخبرني من أثق بخبره أنه جلس إلى جانب أمريكيّ في الطائرة وهما قادمان من أمريكا وعرف في أثناء الحديث بينهما أنه متعاقد مع مدرسة أهلية لتعليم اللغة الإنجليزية وعرف أيضًا أنه معلم رياضيّات متقاعد، أليس هذا ونحوه ممالا ينقضي العجب منه !.
هل أجد الشجاعة على أن أشير بقَصْر تعليم اللغة الإنجليزية على المرحلة الثانوية ؟.
نعم بعون الله، وآمل أن تجد هذه المشورة لها أنصارًا، لا تنكروها فما هي إلا تجربة من التجارب الّتي مرّ بها التعليم أكثرها مخفق وقليل ناجح، لكن جرّبوا وانظروا، وليس عيبًا أن نفعل ما لا يفعله غيرنا.
ومن الضرورات الملحّة في هذا تزويد المدارس بمعامل يذهب إليها الطُلَّب مع معلميهم ومعلماتهنّ للتطبيق العمليّ، فهذا أحرى أن تصبح اللغة عندهم سليقة.
والمقرّر المحدث: التربية الوطنية مقرر منتزع من مقررات مختلفة، معرفة الصالح المفيد من مفرداتها ميسورة , فإبعاده أمر فيه منافع كثيرة؛ لأنّ المتوخّى منه موجود، ولا ضير من غيابه.
والفقه يمكن أن يّدمج في الحديث لأنه مستمدّ منه، وهو أحد مصدريه ودليليه، وبدمجهما تُعرف الأحكام من مصدرها بأدلّتها
وعلوم اللغة العربية لها شأن آخر وحديث لا ينتهي في سطور، ينبغي أن تلقى عناية المخطِّطين والمنفذين ولا سيّما علما النحو والتصريف، إن معرفة هذين العلمين لازمة لإجادة القراءة والكتابة والحديث والفهم.
قدّمت لمعالي وزير التربية والتعليم أ. د. محمد بن أحمد الرشيد - تغمّده الله في رحمته - مشروعًا موجزًا أعربت فيه عن وجهة نظري في الطريقة المثلى لتدريس هذه العلوم، ولا أدري ما مصيره ؟
ذلكم الاقتراح مبنيّ على جمع مقرّرات اللغة العربية في مقرر واحد يساند بعضها بعضًا أساسه وقاعدته علما النحو والتصريف وتتّخذ مقررات النصوص والمطالَعة أو القراءة والإنشاء مقررات تطبيقية عملية يتولّى المعلّمان فيها تدريب الطُلّب على النطق الصحيح قراءة وحديثًا وعلى الفهم الدقيق والكتابة السليمة رسمًا وإملاءً، ويجب أن لا يقلّ عدد الساعات عن اثنتي عشرة: ثمان للنحو والتصريف وتطبيقاتهما وأربع لباقي المقرّرات، وفي الاختبارات الدرجة الكبرى مئتان: مئة للنحو والتصريف وتطبيقاتهما ومئة للمهارات الأخرى: للنطق الصحيح أربعون وللفهم ثلاثون وللكتابة ثلاثون.
هذا الاقتراح يُسهِم - كما هو ظاهر ومطلوب - في تقليص ساعات الخطة. ومن الجليّ أن طريقة التنفيذ في حاجة إلى دراسة متأنية من الممارسين الميدانيّن والخبراء المجرّبين.
سادسة المشكلات: النقص في أعداد أعضاء هيئة التدريس في الجامعات
شرعت المملكة العربية السعودية في إنشاء الجامعات، وكانت خطوُاتها في بادئ الوقت خطوات متّئدة فيها كثير من الأناة والبُطء، لا تُفتح جامعة حتّى تأخذ ما ينبغي لها من الدراسة فأثمر ذلكم الفعل المشكور الثمار الجيدة ولم يبرأ من عدد من النقائص، لكنها كانت نقائص محدودة معدودة آثارها محصورة.
ثم تحوّل التدبير إلى تلبية النداءات الإقليمية بالتوسّع في إنشاء الجامعات فأصبحت مطالب محلية كلُ يريد جامعة فتصاعد العدد وظهرت المشكلات وتكاثرت وزاد الاحتياج.
ومما أسهم في مضاعفة المشكلة توجّه القطاع الخاصّ إلى هذا الميدان منافسًا للجامعات الحكومية بإحداث جامعات مماثلة لها في التخصّصات مع الفارق الجليّ في الإدارة والإشراف وتوسّع نطاق المشكلة حتّى أضحت أزمة.
وتجاوز التوسّع الحدود بإنشاء ما سُمِّي التعليم الموازي وقرينه التعليم عن بُعد.
زدْ على ما تقدّم الأعمال الخارجة عن المحيط التعليمي التي شُغل بها أعضاء هيئة التدريس: الاستشارات في بعض الوزارات والشركات والمستشفيات الحكومية والأهلية والتوسُّع في داخل الجامعات في إحداث المناصب والمراكز والأقسام غير التعليمية حتّى صار لبعض الجامعات خمسة وُكلاء وأكثر وتعددت العمادات الفرعية حتّى كادت تفوق العمادات الرئيسة، وكثُرت الدورات المبالغ فيها وأنواع كراسيّ البحث اللاّتي نسمع بها ولا يُرى لها ثمار والندوات والمؤتمرات.
كلّ ما ذكرته له آثاره الظاهرة البارزة في جودة العمل التعليميّ والبحثيّ، الإنسان ليس له في يومه وليلته أكثر من أربع وعشرين ساعة تضيق الساعات عن الجمع بين بعض هذه النشاطات والأهمّ من الواجبات النظاميّة، ومن ذا الّذي أُوتي من القدرة ما يستطيع معه الجمع بين بعضها ثم لا يخلّ بشيء منها ! أستثني ذوي العبقريّات الباهرة، وقليل ما هم !.
ومما يجدر إنكاره ممارسة كثير من النشاطات السالفة مزامنة للمحاضرات التعليمية ودعوة أعضاء هيئة التدريس والطُلَّب بإلحاح لحضورها لأنها في الغالب موجهة لهم.
أسأل نفسي وأسأل غيري ما بقي من الوقت لدى عضو هيئة التدريس لواجباته الرئيسة ؟ فرّطنا في الواجبات وانشغلنا بالنوافل وأضحت هذه الشواغل تلهينا ببريقها المصطنع وبما لبعضها من العائدات المالية وبات شغلنا المشغل البحث عن أكثرها دخلاً مع توافر الحوافز من المكافآت والبدلات، وربّما كان فينا من يتقاضى بدل تفرّغ ولا يتفرّغ.
لست أدعو إلى التقوقع والانكماش، لكن أقول يجب القصد والترشيد والأخذ بالضرورات والأولويّات وتقديم الأجدى على قليل الجدوى وصرف العناية إلى إعداد الطُلّب على خير ما يُستطاع علميًّا وفكريًّا وعمليًّا، هم خلفاؤنا غدًا ودعائم وطننا، الله الله في الأمانة والحفاظ الحفاظ على أولئكم الأجيال.
أدعو مخلصًا إلى مراجعة أداء كثير من الجامعات الحديثة فإن كان مرضيًا فمضوا محروسين بعون مولاكم، وإن كان الأمر الآخر فالإلغاء هو الحلّ أو معالجته إن كانت المعالجة مجدية.
سابعة المشكلات: المباني المدرسية.
الكلام في هذه المشكلة كثير مكرّر، ولا أظنّني قادر على المزيد، ولولا أنّ الحديث عن مشكلات التعليم لا يتمّ إلا بالإلمام بها لم أولها عنايتي، فعرضها إنما هو من باب الرغبة في استيفاء الحديث.
ولا بدّ لي من التذكير بأن هذه المشكلة تعني التعليم العامّ بجميع فروعه ومراحله.
ولا جحد لما قامت به وزارة المعارف ثم وزارة التربية والتعليم في هذا الجانب وإن كانت جهودًا دون ما يتوقّعه أهل الطموح، فجلّ الوسائل كانت متوافرة، لعلّ لهم عذرًا ونحن نلومهم.
اليوم حملت الحمل الثقيل وزارة التعليم - وأحمالها مضاعفة - وهي مؤهّلة لذلك قادرة عليه بعون الباري - عزّ وجلّ - لا يعوقها عائق ولا تنقصها العزيمة، فهيّا شمّروا للعمل، غيّروا هذه الصور المثيرة للشكوى والتبرّم يلهج بها أولياء أمور الطُلّب في مجالسهم ومع بعض المسؤولين، المسؤولون في الوزارة نفسها يعرفون ذلك أكثر من غيرهم لكنّ التغيير والتجديد أدنى من المأمول.
نسمع بمشروع الملك عبد الله لتطوير التعليم - غفر الله له- ذي (المليارات) ونسأل أين ثماره ؟ ولا نرى ولا نسمع.
جلّ المدارس بيوت سكنية أعمارها طويلة قاربت الشيخوخة، فصول الدراسة فيها غرف نوم والكثير منها دون المتوسّط تُحمّل الغرفة فوق طاقتها، وهو أمر مستنكر مع توافر الدعم الماليّ السخيّ.
والمباني الجديدة تشكو الكثير من العيوب المعمارية والفنّية، فهل تسلّمتها الوزارة دون تفقّد ومراجعة ؟ الله أعلم.
والنظافة والصيانة وما أدراكم ما هما ؟ أمران يكادان يدخلان في زوايا النسيان مع وجود الشركات المتعهّدة، المال موجود والشركات حاضرة لكنّ المتابعة والمراقبة ضعيفتان.
التجارب الكثيرة علمتنا أنّ كلّ عمل ليس له متابع معرّض للتفريط أو للإهمال، فعليكم تقوى الله في ما أنتم مؤتمنون عليه وانبذوا الخوف والمجاملة وراء ظهوركم، فلا خوف إلا من الله ولا مجاملة إلا في ما يخصّك أو ما في ملكك.
أموال الدولة وممتلكاتها أمانة معلّقة في رقاب المسؤولين عنها، على كلّ مسؤول أن يعاملها معاملة أغلى ملك من أملاكه.