اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
منذ أن استطاعت الفارسية الصفوية أن تصنع لنفسها إرثها العلوي المزعوم، وتجمع بين هذا الإرث المصطنع والنزعة الشعوبية، انفسح لها المجال لتمزج بين الفكر الفقهي والعمل السياسي، مدعية أن من حقها أن تكون لها الوصاية على التشيُّع، وتعود إليها مرجعيته ومسؤولية الدعوة إليه، وما يقود إليه ذلك من التطلع إلى السيطرة الإقليمية واتساع النفوذ، خاصة بعدما أصبحت الزعامة المذهبية والزعامة السياسية من نصيب الملالي داخل إيران، وصار لهم منصب ديني في مرتبة متقدمة على المنصب السياسي، حسب ما هو مُقرَّر في نظرية ولاية الفقيه، وما يستدعيه ظهور الإمام المزعوم ومتطلبات نشر المذهب، ومعطيات قدوم الغائب، وقد قال الشاعر:
وإذا أراد الله إشقاء القرى
جعل الهداة بها دعاة شقاق
والمرجعية المذهبية والنزعة الشعوبية وجد فيهما نظام الملالي دافعاً يدفعه إلى اعتماد مشروعه التوسعي في المنطقة، وما يهدف إليه من أهداف مذهبية وسياسية، وهو مشروع يستند إلى الانتماء المذهبي والربط بين المذهبية والفارسية وخضوع السياسة للمذهب على النحو الذي يضفي على هذه السياسة قدراً كافياً من القوة والمشروعية، ويُكسِبها قدرة على التوسع. وفي المقابل يتم تطويع المذهب للسياسة لخدمة أغراضها من خلال إيجاد هامش واسع من النفاق السياسي، وانطلاق المرجعية الفقهية من قاعدة الغاية تبرر الوسيلة. وينطبق على هذا الأمر قول الشاعر:
نبذتم الأديان من خلفكم
وليس في الحكمة أن تُنبذا
إن عُرضِت ملّتُكُم للبشر
قال جميع القوم لا حبذا
وعلى ضوء الكثير من الوقائع المُجرَّبة والأحداث المتعاقبة، فإن النظام الصفوي الرافضي في إيران يتظاهر بالإسلام في الظاهر، وهو ألدّ أعدائه في الباطن، ويدعي نصرته، وهو حرب عليه، ويتقمَّص رداء الغيرة على وحدة الأمة الإسلامية، وهو يسعى إلى تدميرها، وتمزيق وحدتها، وتفريق كلمتها، ويضمر لها الغدر والخيانة، ويتعامل معها بالكيد والمخاتلة، ويتحالف مع أعداء الأمة في السر، ويتواطأ معهم ضدها، ويؤلبهم على قتالها واستنزاف ثرواتها، ويتسلَّح بسلاح التُقْية والنفاق السياسي للمتاجرة بمشاعر الذين ينساقون وراء الشعارات، وتنطلي عليهم المساومات، ويخدعهم الإرجاف والمزايدات، ويحاول جاهداً تعميق الخلاف والاختلاف بين المسلمين والإجهاز عليهم من حيث لا يحتسبون، والزج بهم في متاهات المجهول وريب المنون، وقد قال الشاعر:
وادَّعى الهدى في الأنام رجال
صحَّ لي أن هَدْيَهُمُ طغيان
وقال آخر:
إذا خلت النصيحة حين تسدى
من الإخلاص مجَّتها القلوب
وهل تثق النفوس بقول داعٍ
وتعلم أن قائله كذوب
وهذا النظام الباطني الذي يتخذ من الإسلام جسراً ليعبر من خلاله نحو بلوغ أهدافه، والوصول إلى مآربه، لم تعد نواياه الفاسدة وممارساته المفسدة خافية على أحد، والتَدثُر بدثار الدين ورفع شعار المقاومة لم يبق له مكان بعد ظهور الحق إلى النور وتأكيد المخبور، وافتضاح المستور، وانكشاف ما كان داخل الصدور، واستبان للجميع خبث الممارسات وزيف الادعاءات، متجسِّداً ذلك على أرض الواقع في العراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن وغيرها، وما عانته الشعوب في هذه الأقطار - ولا تزال تعانيه - من حالات الاعتقال والتعذيب والقتل، وما حل بأرضها من الخراب والدمار، وهي حالات ما كان لها أن يتفاقم أمرها ويتعاظم خطرها لولا تدخل النظام الإيراني المباشر فيها، والتحريض على تأجيجها.. والأقليات العميلة التي يمتطيها، والأذرع الخائنة التي يستخدمها ضد أوطانها، ما هي إلا عصابات إرهابية متمردة على الشرعية في دولها وخارجة على القانون فيها. وتبنِّي هذا النظام للجماعات الإرهابية واحتضانه لها يجعل منه راعياً للإرهاب، وشريكاً للإرهابيين، مغلباً نشاز المذهب وقبح الثورة على نضج السياسة وعقلانية الدولة، وذلك بتعامله مع عصابات منحرفة وأقليات شاذة، ليس لها سمة شرعية ولا طابع رسمي على حساب الحكومات الشرعية والمؤسسات الرسمية، وهو أول المستفيدين من التنظيمات الإرهابية في المنطقة.. وكما قال الشاعر:
قوم همو شرُّ خلق الله قاطبة
وأخبث الناس في الدنيا وفي الدين
وقال آخر:
ولو درت بمخازيهم بيوتهمُ
هوت عليهم ولم تنظرهم السق
والنظام الذي يمتلك مشروعاً مذهبياً تدميرياً، وآخر سياسياً توسعياً، والأول يهدف إلى نشر المذهب وتصدير الثورة، والثاني يتطلَّع إلى بسط النفوذ والهيمنة، لا بد له أن يعتنق مبدأ الاعتماد على القوة العسكرية، ويتجه إلى تنويع التنظيمات الأمنية والاهتمام بذلك، وهذا هو ما فعله النظام الإيراني الذي لم يألُ جهداً في حشد الإمكانات المتوافرة لما يخدم المجالين العسكري والأمني على حساب قوت الشعب وخدماته الأساسية ورفاهيته، مُرَكِّزاً على تسليط الأضواء من حين إلى آخر على المناورات واستعراض العضلات بصورة تخدم طموحاته، ويترتب عليها إيهام الشعب وتضليله.
وبالنظر إلى ما ورد ذكره من حقائق في ثنايا الموضوع لا يبقى مجالاً للشك بأن الأقنعة قد سقطت عن وجه كل كَذَّابٍ أشر، ونصَّاب قذر، ليس له عهد يفي به ولا ذمة يصونها. ونار المجوس لم يعد يدل عليها دخانها، بل اكتوت الأمة بنارها. وعاصفة الحزم وبعدها إعادة الأمل فتحتا الباب على مصراعيه للمواجهة مع النظام الإيراني على المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية كافة، وهي مواجهة مصيرية لإثبات الوجود والمحافظة على الكرامة بالنسبة للأمة العربية. والتحدي الذي يواجه هذه الأمة هو تحدٍّ يُقرِّر مستقبلها، ويُحدد خيارها، ويرسم طريق مسارها. واليمن ما هو إلا محطة من محطات التحدي على الطريق الطويل، الذي يمثل اليمن محطة من محطاته ومفتاح النجاح فيه، وقد قال الشاعر:
يعيش شعب إذا ما ضيم ينتفضُ
من الهوان وإلا فهو ينقرضُ
وقال آخر:
إذا المرء لم يدفع يد الجور إن سطت
عليه فلا يأسَف إذا ضاع مجده
وكما أن القوة الرادعة قد تحقق الردع، وتكون سبباً كافياً لمنع الصدام المسلَّح، فإن الاستعداد للمواجهة عادة ما يحول دون حدوثها، واستقرار الوطن واستتباب أمنه مرهون بالتفكير الدائم في احتمالات الخطر والتَحَسُّب له؛ إذ إن انتظار المكروه والتأهب لقدومه أفضل أسلوب لدفعه والتغلب عليه إذا حدث، ودائماً ما يلجأ واضعو الاستراتيجيات ومنفذو السياسات إلى هذا الأسلوب عن طريق التكامل بين عناصر القوة الوطنية، وإطلاق العنان للسياسة والدبلوماسية والاقتصاد والإعلام وعناصر القوة الأخرى لتفعل مفعولها، ويتضح مدلولها، وقد قال الشاعر:
لا يحدث الشيء من تلقائه عرضاً
لكل حادثة لا بد من سببِ
وعاصفة الحزم وإعادة الأمل تقف كل منهما شاهدة على التكامل بين العمل العسكري والسياسي والاقتصادي والإعلامي وغيرها، وما يعنيه ذلك من أن الحملة الجوية في الحالتين ليست عملية منفصلة، بل تمثل حلقة ضمن سلسلة متداخلة الحلقات من الخطط والنشاطات التي تتضافر فيها عناصر القوة، وتمتزج فيها مجموعة من القيم بين قيادات الدول المتحالفة والرأي العام داخل هذه الدول. وتجسَّدت قوة هذا الامتزاج في التوحيد بين الإرادة والعزيمة والحزم، وما نتج من ذلك من إصرار وتصميم على نصرة الشعب اليمني ورئيسه الشرعي. والمواجهة بقدر ما تستهدف الحركة الحوثية وأنصارها بقدر ما تكون إيران طرفاً فيها.
وقد أدركت قيادة المملكة ممثلة في الملك سلمان القائد الأعلى للقوات العسكرية كافة أن مَنْ يتناسَ الحرب يكُنْ أول ضحاياها، ومَنْ يهمل الاستعداد العسكري يصعب عليه مواجهة الأعداء، مثله مثل من يطلق زمام الجواد من يده ويتركه للجواد نفسه. وانطلاقاً من هذا التوصيف فإنه عندما تجاوزت العصابة الحوثية الخطوط الحمراء كان الرد المنطقي هو أن التزام المملكة تجاه أمن اليمن وأمن حدودها لا يمكن أن تحميه أوراق موثقة ولا اتفاقية مكتوبة على الورق، وأن إيقاف زحف المد الفارسي والغزو الصفوي خرج عن دائرة الحوارات والمبادرات. ومن الخطأ القاتل ضياع الفرصة إذا حانت أو الركون إلى عدم إمكانية التعرُّض للخطر دون الاعتماد على انتظاره والتأهب الدائم لمواجهته. والاستعداد قبل الخطر كفيل أحياناً بإجهاضه، وهذه حقيقة مُسَلَّم بها في غياب التهديد أو ضعف احتماله، فكيف إذا كان التهديد واقعاً بالوكالة، والخصم الحقيقي قابعاً في ظلاله، وذلك خلف ساتر من النفاق السياسي، ولا يجد نفسه إلا من خلال الأساليب الغادرة واصطناع الحيل الماكرة. ومن أراد حماية سيادة وطنه، ودرء الخطر عن أراضيه، فليستعد في كل الأوقات لمواجهة التهديدات وجميع الاحتمالات، وكما قال الشاعر:
سر النجاح على الدوام
هو أن تسير إلى الأمام
زاحم وسر نحو الأمام
فإنما الدنيا زحام
وقال آخر:
ومَنْ طلب الفتح الجليل فإنما
مفاتيحه البيض الخفاف الصوارم
والممارسات العدوانية التي تمارسها إيران بالوكالة في عدد من الدول العربية هي ممارسات بلغت في شدة العنف المصاحب لها إلى درجة تفوق الصراعات المرتفعة والمتوسطة الشدة. ورغم أن هذه الصراعات منخفضة في شكلها، ومحدودة في وصفها، إلا أن أضرارها شاملة ونتائجها مدمرة، وإذا كان الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، فقد آن الأوان لتشرب إيران من الكأس نفسها التي طالما سقت منها غيرها، وذلك بنقل الصراع إلى داخل حدودها بمساعدة عرب الأحواز من جهة، وإثارة الفتن المذهبية والعرقية من جهة أخرى.
والصراع السياسي إذا ما ارتفع سقفه تشابه مع الصراع العسكري من حيث وضع الخطط واستخدام الذكاء والتدابير السرية والإجراءات العلنية. والسياسي الحصيف هو الذي ينطلق من مصلحة الوطن، ويجعل حماية أمنه وصيانة مُقدِّراته قبلة له، ويضع منها ضابطاً لسلوكه ومُقَيِّداً لتحركاته، وكل مصلحة جزئية يتعيَّن أن تخدم المصلحة الكلية وتنصهر فيها وتنتهي عندها. والقوة السياسية أكثر ارتباطاً بالقوة العسكرية، وخصوصية العلاقة بينهما لا تخطئها العين، ومَنْ يحرص على العمل السياسي ويتفوق فيه ينتصر على خصمه حتى لو كان أقل منه قوة عسكرية، ومَنْ يهمل السياسة يتعرض للهزيمة حتى لو كان قوياً. ومراعاة الظروف السياسية تمثل أولوية عند التخطيط للصراع المسلح؛ إذ إنها من أهم العوامل التي يمكن على أساسها التنبؤ بإمكانية النصر أو الهزيمة. والمشروع السياسي الإيراني يتعين أن يُقابل بمشروع سياسي عربي، يكشف برجماتية الرافضة وأطماعهم في المنطقة، وتطلعاتهم إلى السيطرة على دولها، واتخاذ الطائفية وشعار المقاومة والمساومات والابتزازات والنفاق السياسي مطية نحو تحقيق ذلك.
والمواجهة الإعلامية هي التي تُمَهِّد لكل المواجهات، وتدفعها إلى إنجاز ما هو مطلوب منها، بوصفها أداة من أدوات عناصر القوة الوطنية التي يدعم بعضها بعضاً لجلب المنفعة، ودفع الضرر، وضبط الجهود المبذولة من أجلها، والتوفيق بين هذه الجهود للحصول على كل ما هو مفيد ونافع وتحييد المضار، ورؤية كل منها إلى جانب الأخرى، واعتبار إدراك السلبيات هو السبيل إلى تحييدها والتغلب عليها لضمان الوصول إلى الإيجابيات. ورؤية المصالح ينبغي ألا تحجب رؤية المضار، وذكر الأولى لا يعني نسيان الثانية، وفي سبيل ذلك يتحتَّم على الإعلام إيضاح الصورة وإبراز المشهد في الإطار المقبول والمعقول أمام الجهات الرسمية والشعبية، وتكريس مبدأ الواقعية والمصداقية، وأن الانشغال بالمخاطر لا يؤدي إلى سطحية التفكير تجاه المصالح، والابتعاد عن التركيز عليها، كما يجب تكوين إعلام مضاد لتفنيد مزاعم الإعلام المقابل، ودحض أكاذيبه، ومواجهة الباطل بالحق والشائعات بالحقائق، ودعم الجبهة الداخلية، مع التركيز على أهمية الانتماء للدين والوطن، وتجسيد الولاء الصادق لهما باعتبار الاهتمام بالدين والوطن ومستقبل الأمة هو الهدف الأسمى والأعلى الذي تهون في سبيله التضحية بالنفس والنفيس، وتلتقي عنده قدرة العقل مع قوة العضل، وكما قال الشاعر:
صلاح العباد ورشد الأمم
وأمن البرية من كل غم
بشيئين ما لهما ثالث
بخرق الحسام ورفق القلم