د.فوزية أبو خالد
يبدو لي من متابعة مقارنة بين الواقع السياسي الميداني الذي تعيشه المنطقة العربية ومنطقة الخليج في تشابكها الداخلي وفي تعالقها الخارجي وبين التعبير اللفظي المنطوق والمكتوب عن هذا الواقع، أننا نعيش حالة حدية من الشزوفرنيا بامتياز.
فمن ناحية تعيث فوبيا الرهاب السياسي في الواقع الميداني بيديها ورجليها وقضها وقضيضها، خالقة حالة من الشعور العميق بالرعب تجعل معظم الحكام العرب، لا ينام أحدهم إلا بعينين مفتوحتين فلا يدري هل تأتيه الطعنة من النيران الصديقة أو العدوة أو من كواتم الصوت الطائشة المتبادلة بين بعضهم وبين شعوبهم، كما تجعل كل مواطن عربي يبقي عينيه مغمضتين وهو صاح لئلا تأكل بؤبؤه الحيتان والتماسيح وأصغر الحشرات وأمضى الأسلحة العالقة في المناخ العام. ومن الناحية الثانية ينشط كلام يناقض هذا الرهاب ليس بمحاولة معرفته على وجه التحديد والعمل على استكشاف أسبابه السافرة والمبطنة ومحاولة إن لم يكن معالجته البحث عن علاج له، بل العكس هو الصحيح. فتتفنن أغلب أنماط الكلام عن هذا الواقع الرهابي في كيفية التستر عليه وفي كيفية التقليل من شأنه وفي محاولة تزيينه بالتطمينات وبادعاء العنتريات في مواجهته كلما -بالصدفة أو بالعمد- افتضح الحال ولم يعد يجدي التستر. وبما أن من بديهية علم المنطق، أن مقال الحال بعض من تصوره، فإن خطورة هذا الحالة من التناقض بين توتر الواقع الميداني وبؤره المشتعلة هنا وهناك على الساحة العربية في عمقها الإقليمي والدولي، وبين ارتخاء الخطاب وتهوينيته لا تعبر عن مجرد مراوغة في لغة الخطاب بل تعبر عن قصور في مضمونه أي في التصور الذهني للواقع نفسه وفي الرؤية العقلية له. بما يعني وجود هوة ملتهبة بين لغة الخطاب وبين واقع الخطاب. تكشف عن سوء تقدير في أحسن الأحوال لخطورة تجاهل الاختلال الموجود في مجمل الخطاب السياسي من حيث القول والتصور ومن حيث الواقع والفعل. مع ما يترتب على ذلك من مساهمة تلك المواقف الكتابية والشفهية المتلهية عن قراءاة الواقع بالطروحات الفانتزية عنه في تعميق تلك الهوة.
ومع أن هذا التجافي بين الواقع الميداني السياسي وبين منطوقه أي بين لغة الخطاب ولغة الواقع إذا صح التعبير يتسم بالوضوح والغموض معا بما لا يقل وضوحاً وغموضاً في الوقت نفسه عن علاقة أشعة صدرية بمصدور أو علاقة مصحات عقلية بتجليات الجنون، فإن ما كتب وما قيل عن مؤتمر كامب ديفيد الأمريكي الخليجي الأربعاء الماضي يشكل عينة مطابقة بامتياز لحالة القطيعة بين مضمون خطاب الواقع السياسي ميدانيا وبين منطوق ذلك الخطاب في الكتابات والتصريحات التي ملأت الأوعية الورقية والإلكترونية في تناول اللقاء قبل وقوعه وبعده. فعدا أن العديد من الأقلام الرسمية وغير الرسمية من المحترفين والهواة على حد سواء أصبحت خبيرة في العلاقات التاريخية الأمريكية بين منطقة الخليج والسعودية على وجه التحديد وبين أمريكا، فقد صار الكثير من تلك الأقلام والتصريحات أيضاً ضليع في تأكيد الزواج الكاثولوكي لهذه العلاقة بين أمريكا وبين منطقة الخليج في ضوء تلك النظرة الرومانسية السرمدية للعلاقة بعيدا عن حركة التحولات والتبادلات واختلاف إن لم يكن اختلال التوازنات العربية والإقليمية والدولية، بل بعيداً عن معادلة التطابق والتنافر في المصالح وفي شروط العرض والطلب والقوة والضغف الذي يحكم علاقات أصحاب المصالح. وقد سطح التناول ونأى في الاغتراب عن الواقع السياسي الميداني لدرجة طرح أسئلة طفولية لا تخلو من سذاجة مثل، من يجلس على الحجر الأمريكي هل أصحاب البشوت أو أصحاب العمائم، ومن يحظى بدالة الحماية منها، هل السعودية والخليج أو إيران؟ ومثل هل أمريكا تميل للشيعة على حساب السنة؟؟
بحور من الحبر وأطنان من الورق تراق في قول كلام «تسطيحي للواقع» من هذا القبيل الذي مهما نمقت أساليبه الكلامية فإنه لا يواري ركاكة العلاقة بينه وبين الواقع الذي يتناوله الكلام. ولنأخذ عينة من تلك الطروحات. فنجد من يقدم رهانات كلامية يروج فيها خلافا لتحولات الواقع العربي والإقليمي وتجاهلاً لأطر وآليات مرجعية السياسة الأمريكية استعداد أمريكا للعب دور الشرطي في المنطقة دفاع عن «حلفاء استراتيجيين» كما يسميهم مثل هذا الخطاب، بجانب من يروج بأن أمريكا إما أن نقنعها بأن تقيم مع دول الخليج تحالفاً شبيهاً بتحالف الناتو أو سيكون ذلك من نصيب إيران. وهذا لا يخلق وهماً بقدرات خارقة في المنطقة تتعدى شروط التجانس السياسي ومشترك المصالح لإقامة التحالفات وحسب ولكنه أيضا يخلق فخاً بأن قدر هذه القدرات أن توظف على طلب الود الأمريكي لا لشيء إلا لتقوم بحمايتنا نحن أصحاب القدرات الخارقة نيابة عنا في حال اختلال القوى لصالح إيران وربما إسرائيل أيضا. هذا بالتقاطع مع طروحات اغترابية أخرى توسع الشقة بين القول وبين واقع الحال كالقول على سبيل المثال إن على دول الخليج أن تنتزع «موافقة أمريكية» تبيح لها تطوير قدراتها النووية للأغراض السلمية مثلها مثل إيران. وهذا المطلب يطرح بجدية لا تسأل من وما الذي يمنع دول الخليج من فعل ذلك لو كانت جادة في ذلك إذا لم يستطع منع إيران إلا بشروط استقوائها. وهذه الطروحات مثلها مثل من يقلقه تصرفات أمريكا أو إيران أو واق الواق وينشغل بمحاولة تفكيك فكر المؤامرة ضدنا، فنحن في نظر هذا القول من القوة والمنعة والإنجاز الحضاري بأن أصبحنا محسودين من الجميع أو ملاحقين، وسواه من تلك الأقوال المشتتة بين حس الرهاب السياسي وحس الاضطهاد والتأرجح بين الشعور بالنقص والشعور بالعظمة. هذا بينما الأحرى أن ينطلق القول من واقع الحال الذي يجعل من المنطقة العربية لقمة سائغة لأطماع الآخرين ليس لقوتهم دائما ولكن لضعفنا وشتاتنا وعجزنا على الأغلب.