د.خالد بن صالح المنيف
عرضت القناة الشهيرة (National Geograph) مشهدا عجيبا لأسدين يتأهبان لصراع دام وقتال عنيف، وكان أكثرهما انفعالا سمج المنظر، قبيح الهيئة ،قد استشاط غضبا وتأهب شرا! ثارت به الحمية، وملكته عزة النفس!
فماذا حدث؟
والدماء تغلي والأنفاس تعلو؛ ما كان من خصمه إلا التراجع بهدوء، والمشي بمشية الواثق قوي الجأش جميل الروح!
وعلق المعلق على مشهد الأسد العظيم بقوله: لقد فاز! أعجبني كثيرا تعليقه, حقا :لقد فاز!
لعبة الحياة لا تخلو من نزالات، شيء منها يفرض علينا وأخرى نسير إليها بأقدامنا!
والسؤال ماهي المواقف التي تستدعي أن نحضر لها كبير عدتنا ونجهز لها كامل جيوشنا و نستخدم لها قوي أسلحتنا؟
في بعض المواقف يكون التراجع عقلا، والانسحاب ذكاء، وافتعال الهزيمة نصار!
من المؤسف أن من البشر من لا يتسع صدره لأي خسارة!
تجده يقاتل لفرض الرأي وبسط الأفكار! بل ويرى الأمر مسألة حياة أو موت!
ذات يوم عثر عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه بشخص كان ينام في المسجد، وهو الذي يحكم رقعة كبيرة من العالم، فغضب هذا الشخص وانفعل واحمر أنفه ’ فقام كالملدوغ وصاح في وجه عمر: أمجنون أنت! رد عليه عمر بهدوء: لا! استغرب رئيس الشرط المرافق العمر تصرفه وقال يا أمير المؤمنين :يقول لك: مجنون أنت! قال عمر: سأل وأجبته!
أخلاق سبكت من ذهب مصفى، وشمائل عصرت من قطر المزن!
تأمل يا عاقل في رد فعل النبي الكريم يوسف عليه السلام عندما عرّض إخوانه به.. فكيف تصرف؟
فَأَسَرَّهَا يوسفُ فِي نَفْسه وَلَمْ يُبْدِهَا لَهمْ
ما أروع خلقه وما أرقى سلوكه! فلم ينفعل، بل أسرَّها في نفسه علوّا وسموّا!
شريف ملكة، وسري خلق، ونبيل نفس!
دين جميل ألا ترونه يزرع الخير ويحث على الجمال!
بعض المواقف التراجع فيها مكسبه بعيد المدى بالغ الأثر؛ فبه تُحمى علاقة من الانهيار ويحافظ عليها من التصدع!
ومن العقل ورجاحته عدم التورط في جدل مع ذوي القدم العالي في النقاشات العقيمة!
وصدّ أي محاولة للتناطح من قبل سيئ الخلق؛ فالكثير من الساحات صنعت فقط للثيران!
فكيف يجاري عفيف مؤدب سيئ الخلق؟! وكيف يقحم عاقل نفسه في ساحة لا يتوقع منها أمنا!؟
إن استفزك أحمق واستدرجك للنطاح وطاوعته؛ فسيغلبك لأن خبرته في هذه الأمور أفضل منك!
يقول محمد كرد علي «وإذا لاحظ الهجّاؤون أَن هجاءهم مما تنخلع له قلوب المهجوين زادوا وأفرطوا، وإذا أيقنوا أن صاحب النفس العظيمة لا يأبه كثيراً لما يُقال فيه يحاذرون صَرْفَ أوقاتهم فيما لا يجدي عليهم.
وسبّ رجلٌ الأحنف وهو لا يجيبه، فقال الرجل: والله ما منعه من جوابي إلا هواني عليه!
وقيل: إن رجلاً خاصم الأحنف، فقال: «لئن قلت واحدة لتسمعن عشرًا». قال الأحنف: «لكنك إن قلت عشرًا لا تسمع واحدة»
وقال يزيد بن حبيب: إنما كان غضبي في نعلي فإذا سمعت ما أكره أخذتها ومضيت.
ما أروعها وأيسرها من صفات على من يسرها الله عليه!
يقول حكيم: «من سكت عن جاهل فقد أوسعه جوابًا، وأوجعه عتابًا»،
أصحاب العقول الذكية لا يقلدون السوقة ولا يلجؤون لساقط قول ودنيء فعل, يربون على أنفسهم ويحملونها لخير المراتب، وقديما قال طاغور: لماذا تحفل دائما بالرد على ما يقال؟
ما أكثر ما في الدنيا من لغو لا قيمة له!
وأنا هنا لست أحرض على قهر ولا أعنو لذل ولا أطمئن لخسف ولا أروج لانهزام!
ولكن العقل عدة والرفق سلاح والهدوء قوة!
ومضة قلم:
عاقلٌ من يأخذ الأمور بالملاينة، والمسامحة!