عبد الله بن صالح العقيل
يقوم الملك عبدالعزيز -رحمه الله- في بداية توحيد المملكة بإيفاد القضاة والمرشدين والمطاوعة إلى كل مدن المملكة وفي كل المناطق من أجل الفصل في القضايا والخصومات بين الناس، ونشر العقيدة الصحيحة والقضاء على الخرافات والبدع التي قد توجد في بعض المناطق.
وكذلك يقوم الملك سعود بن عبدالعزيز -رحمه الله- عندما كان وليا للعهد وبعد توليه الملك، بإيفاد مجموعة من رجال الدين والقضاة من أجل إكمال مسيرة والده.
والملك سعود بن عبدالعزيز -رحمه الله- له مراسلات كثيرة مع القضاة في كل المدن والقرى داخل المملكة، حيث كان يبعث لهم الخطابات لتوجيههم لأمور دينهم وحثهم على الرفق بالرعية واحتساب الأجر من المولى عز وجل.
وكان يخبرهم عن بعض أمور الدين وبعض الفتاوى التي تصدر من كبار العلماء والتعاميم اللازمة.
وبقيت تلك الخطابات والتوجيهات وثائق تنير طريق العلم وتفتح للباحثين الفرصة لعرضها والكتابة عنها.
وسوف نستعرض في هذه المقالة وثيقة بعثها ولي العهد الأمير سعود بن عبدالعزيز إلى الشيخ صالح بن إبراهيم الطاسان عام 1370هـ حال كونه قاضيا في الرس يوضح فيها مقدار الديـة التي اختلف فيها كثير من الناس.
نص الوثيقة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعود بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل إلى جناب المكرم الشيخ صالح الطاسان سلمه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد ذلك، نظرا لما رأينا من اختلاف الناس فيما بينهم في حالة الدية وأفراد الجنايات استفتينا الشيخ محمد بن إبراهيم وكتب لنا ما يلي: من محمد بن إبراهيم إلى حضرة محترم المقام ولي العهد الفخم سعود ابن الإمام عبدالعزيز وفقه الله آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعده...،
حفظك الله، تحرر لدينا مقدار الدية في الدراهم العربية باعتبار الفضة أصلا مستقلا بناء على القول الضعيف ثلاثة آلاف وسبعمائة وأربعة وثلاثون ريالا عربيا، لكن غير خاف على سموكم رجحان اعتبار الإبل أصلا وحدها فقط أو قيمتها حالا، وهو لا يقل عن خمسة عشر ألف ريال عربي على باب النازل، فلو حصل هذا لكان خيرا وأحسن وأرفق ولا أعلم في العمل به أي محذور وإذا اعتبر القول الضعيف فأربعة الآلاف كافية، ومهما زيد عليها كان أقرب للقول الراجح، وفقكم الله للنشاط في العمل بالشريعة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، 13 شوال 1370هـ..
فبهذا رأينا أن الدية تكون أربعة آلاف ريال وأن الجنايات المتنوعة يكون تقديرها من أصل أربعة الآلاف المذكورة وعممنا هالمكاتيب لجميع قضاتنا قصدنا ألا يكون اختلاف بين المحاكم. نرجو أن الله يوفقنا وإياكم لما فيه الخير، هذا ما لزم والسلام 11 ذو القعدة 1370هـ.
والخطاب يوضح ما يلي:
ـ أن ملوكنا -أعزهم الله- منذ قيام الدولة السعودية الأولى ثم الثانية ثم الثالثة كانوا يقدرون العلماء والقضاة ويجلّونهم ويرفعون من قدرهم لأنهم هم الذين تعود إليهم الفتوى في أمور الدين، وهم الذين يعوّل عليهم فيما أشكل على الخاصة والعامة. ثم إن حكامنا رحم الله السابقين منهم ورفع قدر الموجودين منذ عهد الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى إذا أشكل عليهم أمرا ردّوه إلى العلماء.
ـ إن حكامنا كثيرا ما يوجهون النصح للعامة من الناس, ويكتبون إلى العلماء
والقضاة ورجال الدولة بالنصح والتوجيه من أجل التعامل مع المواطنين بالرفق واللين. كما يوضحون لهم ما أشكل عليهم من الفتوى.
ـ الملك سعود رحمه الله كثيرا ما يبعث الخطابات للقضاة من أجل توجيههم للقضاء أو الدعوة في المناطق التي تحتاج لذلك. وكان رحمه الله يقصدهم بأسمائهم ويوجه الخطابات لهم شخصيا رفعة لمقامهم وإعلاء لشأنهم.
ـ الملك سعود رحمه الله في هذا الخطاب يوجه قاضي الرس صالح بن إبراهيم الطاسان بعد أن أخذ رأي الشيخ محمد بن إبراهيم بمقدار الدّية (أربعة آلاف ريال) قياسا بالفضة وهي الأصل في تقدير الدّية. أما الجنايات على مختلف أنواعها فيتم تقديرها من قبل القاضي من أصل هذا المبلغ المذكور.
التعريف بالألفاظ:
ـ الدِّيَة لغة: من: وَدَيْتُ القتيلَ أَدِيهِ دِيةً، إذا أعطيت ديته، والجمع: ديات. وشرعاً: هي المال المؤدَّى للمجني عليه أو لوليه بسبب الجناية.
وتسمى أيضاً (العَقْل) لأن القاتل كان يجمع الدية من الإبل، فيعقلها بفناء أولياء المقتول ليسلمها إليهم.
والدية واجبة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ)، وأما السنة: فحديث أبي هريرة (من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يفدى وإما أن يقتل) وكذا حديث عمرو بن حزم في الكتاب الذي كتبه له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيه مقادير الديات. وأجمع أهل العلم على وجوب الدية. أما الحكمة من مشروعيتها: فهي حفظ الأرواح، وحقن دماء الأبرياء، والزجر، والردع عن الاستهانة بالأنفس.
ـ الجنايات: جمع جناية. ومعناها لغة: التعدي على نفس أو مال. وشرعا:
التعدي على البدن بما يوجب قصاصا أو يوجب مالا. وتسمى الجناية على النفس: القتل. وتسمى الجناية على المال: غصبا أو سرقة أو نهبا أو خيانة أو إتلافا.
ـ الفضة: من المعادن الكريمة. وهو معدن أبيض يستخدم في النقود والحلي تماماً كالذهب إلا أنه أقل قيمة. والفضة من العناصر الانتقالية، عدده الذري 47 وكتلته الذرية 107.868 ودرجة انصهاره 961.63 ْس ودرجة غليانه 2212 ْس، والكثافة 10.5غ/سم3.
ـ التعريف بالأعيان:
ـ الملك سعود: هو سعود بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود. هو الابن الثاني للمؤسس -رحمهما الله- وثاني ملوك المملكة العربية السعودية، ولد في الكويت في: 5 شوال 1319هـ كان في شبابه يحضر مجالس والده الملك عبدالعزيز ومجالس جده عبدالرحمن الفيصل. ويتعلم منهما أمور الحكم والسياسة والإدارة حتى أتقن ذلك، وكسب ثقة والده وفوّضه للمهام التي تكسبه إدارة الحكم والسياسة الخارجية. توفي في: 6 ذي الحجة 1388هـ رحمه الله رحمة واسعة.
ـ الشيخ محمد بن إبراهيم: هو سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب. ولد يوم عاشوراء من عام 1311هـ. نشأ في بيئة دين وعلم وصلاح ثم درس في الكتاتيب وهو صغير. ثم فقد بصره في شبابه فعوضه الله عنها بالبصيرة. فعاش متبحرا في العلم. حفظ القرآن في صغره وطلب العلم على مشايخ عصره مثل الشيخ عبدالرحمن بن مفيريج وعلى عمه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ سعد بن عتيق والشيخ محمد بن مانع وغيرهم، حتى نبغ فيه وتصدّر للتدريس والفتوى. توفي رحمه الله يوم: 24 رمضان 1389هـ.
ـ الشيخ صالح بن إبراهيم الطاسان: هو صالح بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن سعد بن عبدالرحمن الطاسان. ولد في الرس عام 1328هـ درس على مجموعة من العلماء في الرس ومكة والرياض، تولى القضاء في عدة مواقع منها: مكة المكرمة وبني مالك والقحمة والرس والأسياح والخرمة ورنية والقويعية والبكيرية. وتوفي في الرس يوم 11 صفر 1420هـ.