فايزة محسن الحربي
الاختبار الشامل أسطورة الاختبارات للإعداد لمرحلة الدكتوراه التي تبلغ التحديات في أدائها أعلى المراتب المعرفية والذهنية من: «تحليل وتركيب وتطبيق» نزولاً إلى أدناها في المستوى من «حفظ وفهم وتذكر».
اختبار الشامل نقطة تحول تسير بالطالب من مسيرة التلقي والتعلم إلى مسيرة العطاء والبحث والتعليم كأسلوب تعليمي وعلمي دقيق، يعود بنا إلى العهود القديمة لأرسطو وفرنسيس بيكون بأساليبهما العلمية المشهورة «الاستنتاجي والاستقرائي»، من خلال تطبيق هذه الأساليب في إجابات أسئلة الاختبار الشامل، مع تقديم معلومات بحثية علمية واستقصاء المعارف من منابعها الأصلية المتنوعة «الأصلية كالكتب والبحوث والمجلات العلمية المتخصصة، أو الفرعية كالصحف والمجلات العامة»، إضافة إلى منابعها الحديثة المنتشرة على منصة العالم الافتراضي الرحب «أصلية أو فرعية»، كلاهما على حد سواء.
إن المرور بالاختبار الشامل تجربة فريدة تقارب وتشابه المرور باختبار القدرات العام، مع معاناة وبيروقراطيات إضافية لا تتناسب مع مراحل التفكير العليا التي تنشد الإبداع في هذا الاختبار. فحين تختبر القدرات العامة والمهارات الذهنية بمستوياتها المتعددة يتطلب منك ذلك «التركيز والفهم والتحليل مع مراعاة قياس السرعة في جميع المهارات العلمية والذهنية بتسابق كبير مع الوقت رغم محدوديته». كل ذلك يشترك بين الاختبارين الشامل والقدرات، لكن يضيف الشامل - بسدوله الرقيقة في ظاهرها العنيفة بين جنباتها - قياس قدراتك مع اكتشاف مهاراتك الجسدية كاختبار صارم لقدراتك العضلية في الكتابة ومستوى لياقة «فقرات الرقبة وفقرات الظهر» والتحكم بالأعصاب والانضباط بالجلوس الطويل لتسطر ثلاث كراسات للاختبار الجامعي «الدفاتر الورقية» التي تضم 12 صفحة مسطرة على الأقل، كما يرحب بالزيادة في عدد الكراسات لإثبات قدراتك العلمية والذهنية والعضلية، وكأنك تعد كتاباً أو بحثاً علمياً في غضون سويعات «يطول الوقت مع الكتابة والجلوس ويقصر مع التفكير المركز العميق»، رغم الزخم المعلوماتي الوفير الذي تستقيه في اختبار الشامل أكثر مما درست في مرحلتي «الماستر والدكتوراه معاً». وعظم الفائدة منه كونه يحولك في غضون أشهر قلائل إلى أستاذ أكاديمي، تساهم في تخصصك بكل عمق وتميز، إلا أن آلية تنفيذه وأحكام تطبيقاته وحدوده ما زالت تحت المستوى المأمول في بعض التخصصات بالجامعات المحلية. فحين تقيس المرحلة الأستاذية لطلاب الدكتوراه تحتاج إلى أن تكون على مستوى عالٍ من الخبرة، وتمتلك مهارات مميزة، ربما تكون خارقة - إن صح التعبير- لتصل بمستوى الاختبار إلى أعلى الدرجات النظرية والتطبيقية، إما أن تحول الإجابات إلى «مهارات عضلية وقصص سردية مطولة أو إحصائية تناقش الاختبارات الإحصائية بعمقها وتطبيقها وأنت مجتاز الإحصاء المتقدم في مادة لم يكن لها صلة بالتخصص الإنساني المرتبط في مجال تخصصك، وربما يرسب الكثير من الطلاب في هذه المادة الإحصائية. ما يدهشك بالوقت ذاته أن ترى غالبية أستاذتك الأكاديميين يستعينون بالمكاتب الإحصائية والمختصين في الإحصاء في تطبيق الجانب الإحصائي في بحوثهم ودراساتهم العلمية لاستخلاص نتائجها. حقيقة، إن ذلك أمر لا يليق بمستوى جامعات عالمية تطرح الاختبار الشامل المتخصص في مجالات إنسانية.
لا باس بالحد المتوسط؛ فهو مطلوب لنيل درجة الدكتوراه، وتحقيق مستوى جيد «بالإحصاء واللغة الإنجليزية» كمواد عامة، تطرح ضمن مواد الدراسات العليا لإثراء الطلاب، وهو أمر حسن لكن أن تعيق وصولهم للدرجة المستحقة رغم تفوقهم وتميزهم وإبداعهم في مجالاتهم المتخصصة فأمر يصعب تقبله عقلياً ومنطقياً، وخصوصاً في التخصصات الإنسانية، وبجامعة لغتها الرسمية اللغة العربية تقدم جميع موادها باللغة العربية، رغم أن بعض الجامعات تسير بمنهجية جيدة لرفع مستوى طلابها فتقدم فصلاً دراسياً كاملاً أو أكثر لتأسيس طلابها في اللغة الإنجليزية، وتشترط الاجتياز لهذا الكورس للقبول في الدراسات العليا، ثم تنتقل إلى العمق الأكاديمي في مجال التخصص وليس العكس، باستراتيجية ناجحة وجادة لحل مشكلة الأمية في اللغة الإنجليزية التي يعاني منها مجتمعنا كظاهرة تستحق العلاج، وهي بادرة جيدة من بعض الجامعات، تستحق الاحتذاء بها، كون تعلم مهارة الإنجليزية بات ضرورة مجتمعية ومطلباً ملحاً للفرد على المستويَيْن المحلي والعالمي؛ لنتمكن من صنع رواد وعلماء متميزين في مجالاتهم العلمية، يواجهون العالم المتقدم بقوة بعيداً عن الضعف والتبعية التي نعاني منها كثيراً، ويعتزون بقيمهم ودينهم.
نحتاج إلى احترام الطلاب عموماً، وطلاب الدراسات العليا خصوصاً، فهم قادة وعلماء المستقبل، والعقول المستهدف إنماؤها لبناء مستقبل قادم أفضل، تتصارع فيه المعرفة والعلوم؛ ليواكب الانفجار المعلوماتي وتدفقه، فكيف بنا ونحن نبني هذه العقول ونهيئها ونؤهلها لخوض المعارك الفكرية والانفتاح المعلوماتي الزاخر الذي يُغرق العالم بتدفقه اللامحدود، وحمل لنا بين جنباته الكثير من العلوم الغثة والنافعة معاً.
وصلني مؤخراً هاشتاق لطلاب الدراسات العليا الذي تتبناه أشهر المواقع الإلكترونية المحلية، بالمطالبة الملحة لإلغاء اختبارات الشامل لسطوتها وجبروتها، وصعوبة الواقع في عدم تحديد مراجع أساسية للاختبار في بعض الكليات المحلية، فينهل طالب الدراسات العليا المعلومات غارقاً في بحر العلوم إلى أن يشيب شعر رأسه، وينحني ظهره من شدة الآلام والتقلصات العضلية، كون قياس قدراته بالشامل «كعالم متعمق في تخصصه، وفيلسوف عصره، وداهية بين زملائه، وحافظ لأكبر قدر من المعلومات»، يتمنى حينها أن يرزق بـ»حافظة الجاهلية ودهاء الليبرالية ومكر الشيوعية وطلاقة الإسلامية»؛ ليحقق النظرة الشمولية التي قد تصل به إلى بر الأمان، ومرافئ السلام، واجتياز العقبات، وإرضاء المصححين. وحقيقة، سعدت أن ضممت صوتي للهاشتاق لشدة المعاناة منه، وسوء الحال من تطبيقه، والتخوف الكبير من ويلاته.. فخوف الطلاب من أن يتحطم الحلم الكبير بالدكتوراه، بعد المشوار الحافل على مدار سنتين من الاختبارات التحريرية والمقابلات الشفهية والموافقات الرسمية والمراجعات الخارجية والداخلية، وتفرغ دراسي للدراسة النظرية، انقطع به الراتب الحبيب، واضطربت به الميزانية المالية الأسرية لكثير من الطلاب الذين لم يشملهم تفرغ دراسي، فكيف بالاختبار الشامل ينسف الآمال بوريقاتٍ وسويعاتٍ، قد تجعلك تتوارى عن النظر إلى أبنائك وأهلك بعد طول المعاناة والانقطاع الطويل عنهم للمذاكرة والبحث والتقصي، إضافةً للدعم الخارق من الأهل في شتى الاتجاهات، فتجد الأمهات مجتهدات في الدعاء، والأبناء في حزن وحرمان من الحنان الأبوي، فملامح الوالد «طالب الشامل» بدأت تُنسى مع طولِ الغياب، وربما تغيرت الملامح مع الشدة والفصال، كما أن الأزواج في صراع وعدم وفاق مع الشامل وكأنه الخصم المجابه «للمرأة والرجل» على حد سواء، فترى الأزواج وشرارة فكرة الزوجة الثانية تتطاير أمام أعينهم مع انشغال زوجته وانصرافها عنه، وترى الزوجات مع الألم بسبب الفرقة الزوجية وحالة الطوارئ بالمنزل التي تكاد تعصف بالأسرة كون قبطانها «ثائراً حائراً مزمجراً قد ينسف من أمامه»، ثم يأتي الاختبار الشامل بكل بساطة ليمثل بوابة لا يمر بها إلا من كان في الحسبان، وحقق شروطاً، واستطاع اجتياز الصراط، وكأننا في سباق للجنان.. رغم غيماني ويقيني الجازم بأهمية وضرورة الشامل وفائدته العظيمة وروعة الاستفادة منه كونه يحقق التعليم لا التعم، وهو الهدف المنشود على شتى الأصعدة العلمية، لكن - للأسف - الإشكالية تكمن في تطبيق آلياته وطريقة إعداده في كثير من الكليات المحلية، فإن كان للقائمين على الشامل مراعاة أصول تطبيقه وإلا فلا حاجة لإرهاق الطلاب والأساتذة المصححين به، فهناك جامعات كجامعة الملك سعود المحلية وجامعة كولومبيا العالمية تسمح بإدخال ورقة واحدة مسودة، تعين الطلاب لاسترجاع أبرز النقاط المهمة على المستويات المعرفية الدنيا، فتختبر مستوى الطلاب من حيث المستويات المعرفية العليا من «تحليل وتركيب ومهارات الكتابة العلمية وأساليب الإقناع الإبداعية» بعيداً عن الحفظِ البسيط، وجامعات عريقة أخرى لا تعترف بالشامل ولا تضعه في برامجها الدراسية، وأخرى تجعله مفتوحاً «open book» عبر النت.. يمكننا تقبل الشامل بصورة تشابه اختبار القدرات العام بالإجابات التعددية التي تقيس جميع المهارات المعرفية والإبداعية، مع إضافة سؤال واحد أو اثنين لاختبار القدرات الكتابية السردية، فيتمكن الطالب من نثر إبداعاته والتركيز على الإجابة بمقال مميز، بعيداً عن أسئلة المقالات بطولها وعمقها المرهق.
ويكفينا الجد والاجتهاد المتوقد بداخل كل طالب دراسات عليا؛ ليثري نهمه المعلوماتي في رحاب العلوم الواسعة المتوافرة على مدار الساعة، وليشارك في المسيرة العلمية البحثية والأكاديمية، ويثبت قدراته اللولبية، ويخرج من دوامات صمته، فيتفاعل مع العالم في الميادين العلمية الرحبة، إضافة للكم المعلوماتي الكبير «المتخصص والعام»، الذي استقاه من أساتذة الجامعة المتخصصين، وهم الأجدر لبناء قاعدة معلوماتية قوية لطلابهم، تستحق أن تصل بهم إلى العمق الأكاديمي المطلوب في تخصصاتهم.