التغافل: هو إظهارك الغفلة عن عيب أو نقص مع علمك به وإطلاعكَ عليه تفضلاً على المتغافل عنه وترفعاً عن صغائر الأمور وتوافهها.
إن أغلب المشكلات التي تحصل بين الأفراد سواء الزوجان أو الإخوة أو الأصدقاء والأقارب نشأت من التدقيق والتركيز في المعاملات بين البعض.
فزيادة الملح في الطعام أو السكر في الشاي والتأخير عن الموعد بضع دقائق أو نسيان بعض طلبات المنزل أو التأخر عن إحضار كأس الماء.... الخ أمور لا تُعد جريمة ولا أمراً مفزعاً ولا موجباً للعصبية والصراخ إن لم تحدث كما يجب.
من أعظم المصائب وأشد البلاء أن نعيش مع أُناس يدققون في أعمالنا ومتتبعين لكل شاردة وواردة، لماذا؟ وأين؟ وكيف؟ ومتى؟ وهل؟...... إلى غير ذلك من التساؤلات العقيمة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، فضلاً على أثرها السلبي في العلاقات فحتماً لن يكون إيجابياً أبداً وإن المُدقق والمُتتبع للسقَطات والهفوات شخصٌ محدود التفكير ضئيل الرؤية، لا تتعدى حدوده تحت قدميه، قال جعفر الصادق رحمة الله: (عَظّموا أقداركم بالتغافل)
لذا كان هذا الخلق من أسياسيات دوام العلاقات وأحد قوانينها فلن تدوم علاقة بالمحاسبة فلا تُضخم الأمور وتضعها في غير موضعها..
قال الشاعر:
ليس الغبي بسيداً في قومهِ
لكن سيدَ قومهِ المتغابي
وقال آخر:
وأسكتُ عن أشياءٍ لو شئتُ قُلتها
وليس علينا في المقالِ أمير
إن التغافل والتغاضي عما يزعجنا من الأشخاص الذين نتعامل معهم، فنٌ لا يجيده إلاّ القليل، حيث يعيش الراضون براحة بال، ويمضون في حياتهم إلى الأمام عكس الآخرين الذين لا يستطيعون تلَمُّس مواطن الجمال في الآخرين لانشغالهم بعيوبهم ونقائصهم وعدم قدرتهم على تقبل تلك العيوب وغضّ الطرف عنها والانشغال بمواطن الجمال من الجانب الآخر.
والبعض يغفل عن الأخطاء والهفوات ليس نقصاً أو ضعفاُ منهم، إنما ذلك إدراك للعواقب الناتجة عن هذا التدقيق، ولأن المواقف ستتأزم بينهم وتبدأ المعارك اللفظية، وربما يحصل الخلاف الذي قد يسبب القطيعة، فكان الأولى غضّ الطرف والتجاهل.
قال أكثم بن صيفي رحمه الله: (من شددَ نَفّر، ومن تراخى تآلف، والشرف في التغافل)
وضرب لنا القرآن الكريم أروع الأمثلة عن هذا الخلق الرفيع متمثلاً في حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، حيث قال تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} (3) سورة التحريم.
فقد أفشت حفصة، رضي الله عنها، سراً وأخبره الله به، لم يناقشها في جميع ما تكلمت به وإنما طبّق ما أمره به ربه (وأعرض عن بعض.......).
وأخرج الإمام أحمد عن عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه، أن الحبيب المصطفى أمر صحابته حيث قال: (لا يُبلّغِني أحدٌ عن أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر).
فضرب لنا صلوات ربي وسلامة عليه أروع الأمثلة في التغاضي والتغافل وعدم تتبع الزلات والهفوات للآخرين.
إنك إن تغافلتَ عن زلة رأيتها، أو خطأ وقعت عليه، لا يعني الغباء والسذاجة والضعف.. لا أبداً، بل هو الفطنة والعقل والحكمة، ولا يجب أن نمسك ذلك الخطأ والزلة ونجلده بها بين كل حين وآخر، بل هو التغاضي والصفح والعفو.
قال معاوية رضي الله عنه: (العقل مكيال: ثلثه الفطنة، وثلثاه التغافل)، وقال الشافعي رحمه الله: (الكيّس العاقل هو الفطن المتغافل).
ولننتبه لأمر مهم، وهو أن التغافل والتغاضي لا يكون في حقوق الله وحدوده من الواجبات والمحرمات والأوامر والنواهي الشرعية، إنما يكون في أمور الحياة التي قد يحدث فيها العجز والكسل والنقص والتقصير والخلل، كما أن التغافل والحث عليه والترغيب فيه لا يعني ترك النصيحة والتنبيه عند حدوث المخالفات الشرعية، فهذه ليست محلاً للتغافل أو التقصير، فقد ذمَّ الله سبحانه بني إسرائيل ولعنهم وعاقبهم بتركهم التناهي عن المعاصي وبها كان هلاكهم، فقال سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ* كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (78-79) سورة المائدة.
وقال الحسن البصري رحمه الله: (ما استقصى كريمٌ قـط) فأين كرم النفس عند من يُفتش عن الزلات صغيرها وكبيرها ويعاتب على الهفوات جليلها وحقيرها؟ إن من يفعل ذلك لا يجلب لنفسه سوى الغم والحزن والنكد والشقاء.
فعلينا مجاهدة النفس ونزينها بهذا الخلق الرفيع الذي هو من شيم الكرام وأهل الأخلاق الذي لا يتحلى به إلا أهل المروءة وأهل المكرُمات, وهو دليل على سمو النفس وارتفاع مكانتها، فضلاً عما يجده المتغافل والمتغاضي من سعة الصدر وراحة البال ونقاء النفس والسريرة وصفاء الروح.