بينما كنت أتصفح مجلة الهلال عدد مارس 1956م أي قبل تسعة وخمسين عاماً لفت نظري في صفحتها الثامنة مقالاً تحت عنوان (صقر الجزيرة.. سعود كما رأيته يرويه وزير الدولة القائم مقام أنور السادات» يقول «كنا قد فرغنا من أداء مناسك الحج، وكان ركب الملك سعود يتقدم العائدين من مكة إلى جدة بعد أن شارك المسلمين في أداء الفريضة.
وفجأة توقف ركب الملك، وأخلي الطريق لكي يتابع الناس سيرهم، وجاء دورنا في المرور على النقطة التي وقف فيها ركب الملك، فرأيت الملك سعود يفترش الرمال مع الحاشية.. ليس كملك وإنما كمسلم عادي والجميع يؤدون فريضة المغرب ويسجدون في جباهم على الرمال بلا مظاهر ولا رسميات. وسعود من بينهم مسلم يؤدي الفريضة، وقلت لنفسي: ليس هذه طريقة الملوك.. وإنما هي سجية أمراء المؤمنين، الذين يتجردون لله وللدين وللناس..!
وقد نهج الملك سعود كل يوم نهجاً ليس فيه مظاهر كتلك التي يتخذها الملوك لأنفسهم، وإنما هو نهج مستمد من طبيعة الفطرة الإسلامية ولعله امتداد لعهد الخلفاء الراشدين.
إن يوم الملك سعود يبدأ بذكر الله وأداء حقه في صلاة الفجر، ثم يعكف بعد ذلك على مباشرة شؤون رعيته ليس في القصر الملكي، وإنما في مجلس عربي متواضع تقوم بنايته في قلب مدينة الرياض حتى يأتي الناس ليجلسوا لسعود ليس كملك، وإنما كراع وأب وأخ بالطريقة التي يريدون وبالشكل الذي تجري عليه التقاليد العربية منذ صدر الإسلام.. أي البساطة والحرية والثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم في غير كلفة أو رسميات. فإذا ما أذن المؤذن لصلاة الظهر قام سعود ومن معه يؤدون الفريضة، ويعودوا إلى قصره فيتناول طعام الغداء ويصيب بعض الراحة التي ينهض بعدها لأداء فريضة العصر، وما إن ينتهي من أداء هذه الفريضة حتى يخرج إلى المربع. والمربع هذا هو قصر المرحوم الملك عبدالعزيز.. إنك تحس فيه بطولة عبدالعزيز، ومجد عبدالعزيز على بساطة ما تراه من بناء وتشييد.
كنت قد وصلت إلى الرياض بعد الظهر ودعيت إلى مقابلة الملك وتحدد لذلك وقت بعد صلاة العصر وحين دخلت على سعود في قصر المربع كان كعادته أبداً: باسماً مرحباً، في كرمه العربي الأصيل وقد أجلسني إلى جانبه وبدأت من فوري أرفع له تقريراً عن رحلتي بشأن المؤتمر الإسلامي، فما راعني إلا أن رأيته انصرف إلى شيء آخر إذ بدأ حين ذاك حديث ديني كان يلقيه أحد علماء نجد، وكان يستشهد فيه بالقرآن والحديث عن واجب الملوك نحو رعاياهم، ولم يكن لي إلا أن أنصت حتى انتهى الحديث، ثم اتجه الملك سعود نحوي قائلاً في بشاشة:
«إن هذه سنة الملك عبدالعزيز: ففي مثل هذا الوقت من كل يوم، كان يجلس في هذا المجلس لكي يستمع إلى حديث الدين والحق والخير» وكان الحاضرون في هذا الحديث جمعاً غفيراً من رجال القبائل الذين يفدون على الرياض وهنا تجري سنة أخرى وهي أن هؤلاء الذين يأتون إلى الرياض بعد أن يجتمعوا في تلك الساعة مع الملك ليستمعوا إلى حديث الله يتناولون طعامهم على طاولة الملك لأنهم ضيوف الملك ما داموا في الرياض. ولهذه حين يؤذن المؤذن لصلاة المغرب، ويفرغ الملك من أدائها يقوم الجميع إلى المائدة مهما كانت صفتهم فيتناولون طعام العشاء، ويعود الملك بعد ذلك إلى قصره مباشرة لكي يصيب بعض النوم بعد أن يكون قد أدى صلاة العشاء حتى يأتي يوم جديد فيقوم ويؤدي حق ربه وحق الناس من جديد.
إن سعوداً يعامل رعيته كمسلم بلا مظاهر ولا تصنّع ولا رسميات وأن سجيته في هذه المعاملة هي - كما قلت - سجية أمراء المؤمنين الأولين الذين يتجردون لله فيعبدونه حق عبادته، وللدين فيقيمون مشاعره، وللناس فيؤدون ما لهم من حقوق وواجبات.
- السفير اللواء/ صالح بن محمد الغفيلي