قراءة - أسامة الزيني:
خلاصات إنسانية بالغة العمق، تتماس مع وجود الذات الإنسانية وعلاقتها بالآخر، نشاهدها من شرفة مقصورة الكاتبة رقية الهويرني في قطار رحلة، بوسعك أن تتصور الكاتبة في محطتها الأولى ترتشف قهوتها السوداء المرة وتتأمل كل شيء أحبته يجري في الاتجاه المعاكس لقطارها بطيء الحركة المتشبث بأرصفة لا يريد أن يغادرها، وهي تحكي عن دواخلنا الإنسانية الجريحة من نكران الآخرين وأفولهم عن حياتنا، بلغة تتدفق ألماً كأنها حمم براكين، المحطة التي ما إن تتجاوزها الكاتبة حتى ينطلق قطارها بأقصى سرعة، فتلتفت إليك فجأة بوجه صارم ونظرة جادة، نعم تعود لتحدثك عن الآلام نفسها، لكن عن آلامك وحدك التي لم تعد تشاطرك سهادها، بروح جديدة قوية تجاوزت حزنها، فقررت التوقف عن مراقبة الأفق من دون هدف للفوز بدمعة في فضائه، الدمعة التي تتبخر تماماً من صفحات/محطات الرحلة الأخيرة بعد أن غادرت رقية الهويريني مقصورتها القديمة مخلفة وراءها غبار رحلة الأوجاع، إلى مقصورة أخرى تتقمص فيها دور المعالج النفسي وقد أدارت ظهرها للأفق وأوهامه وقررت تأمل النفس البشرية من دون اقتراف شيء من أحزانها على مُفارِق ولى وقت البكاء عليه، أو خذولٍ لا يستحق الرثاء أو الاكتراث، تتأمل حالات الألم الأخرى التي تجثو بين يديها شاكية باكية، تتحدث إليها بحكمة معالج عركته الأيام ونشبت في قلبه مخالبها، لكنه مع الوقت تجاوز كل شيء، وأصبح مؤهلاً ليسدي نصائح جادة للآخرين، وكتابة وصفات منها ما أهدته إياه يد التجربة، ومنها ما جادت به قريحة علماء العالم وباحثيه، في مشهد مفارقة عجيب بين المعجم اللفظي والدلالي لمقالات الكاتبة في الصفحات الأولى من هذا الكتاب، المعجم الأقرب إلى لغة الشعر وحالته، والمعجم اللفظي لصفحاته المتأخرة الأقرب إلى لغة الدراسات العلمية والمعادلات المنطقية الذي ختمت به صفحات هذه مؤلَّف بدا لي أقرب إلى تعاقب الليل والنهار، من حلكة احتقان نفسي ضاغط مهيمن على موضوعات وأفكار تدور في فلك فَقْد الآخر المُوِرث لاعتلالات النفس واختلالاتها إلى حد يجعلنا أمام حالة «اعتمادية» صريحة تبلغ حد الرجاء حين تناشد الآخر بقولها «أرجوك.. لا تبهت» فهي لا تتصور للوجود ألواناً أخرى غير طيف هذا الآخر، إلى فضاء بكور صحو مشرق بجميع الألوان والأطياق لحياة جديدة لا يمثل فيها هذا الآخر أكثر من طيف غابر قد يطل من ثنايا نصيحة لممتَحَن في تجربة نكران عابرة، تسدي إليه الكاتة النصائح بصرامةِ طبيب نفسي لا يلقي بالاً إلى سماع شكوى مريضه، بل ربما لا يتعاطف معها، لعلمه أنها حالة مؤقتة ليس من مصلحة المريض أن يتوقف أمامها على الإطلاق، ما يجعنا نقف حائرين بين حياتين ومَنْطقين ولغتين وخيالين وعاطفتين لكاتبة واحدة، تبدأ رحلتها المرهقة المثخنة بطعنات الآخر بقولها «أرجوك لا تبهت» فيما يشبه التوسل للآخر بألا يسقط هذا السقوط المدوي في حياتها ويفقد بريقه وسطوعه اللذين كانا مصدر كل ضوء ولونه الذي كان مبعث إلهام ذات منكسرة منهزمة بالفقد والنكران، ثم تختمها بقولها «لا تذوبي فيه» ضمن قائمة نصائح حادة عاتبة على زوجة كافأها زوجها عن رحلة وفائها ومحبتها الطويلة له بالزواج من شابة صغيرة يجدد بها شعوره باللذة، في مقال يمكننا أن نشتم فيه رائحة الحِدّة -إلى حد العداء ربما- للإفراط في العاطفة تجاه الآخر والتعويل عليه، فما كان ينقص الكاتبة إلا أن تهدي ثيرمومتراً إلى الشاكية لتحدد مستوى درجة حرارة العاطفة الآمن الذي لا يعرض قلبها للانفجار وجداً على شريك عمرها الخائِن، بل تذهب إلى أبعد من ذلك حين تركز على أن العلاقة الزوجية قائمة على عقد على طرفيه الوفاء ببنوده، بغض النظر عن مسألة العاطفة تلك، وأن المودة تكفي، مع التركيز على حب الأبناء لأنه الأبقى.
ولله في خلقه شؤون.
هكذا تسكنك الدهشة التي لا تحرمك من الفائدة من طرحَي الكاتبة، الرومانسي، والمنطقي، لكن يبقى الأول نسيجَ وحدِه، في تصوير فضاءات الألم والفقد الهائلة التي يخلفها الآخر حين يتخلى عن مسؤولياته الإنسانية تجاهنا، ويتصرف بأنانية مفرطة، الفضاءات التي ترتطم على جدرانها أصوات يختلط عليك الأمر كثيراً، حين تعجز عن معرفة مصدرها، إن كان السطور التي أمامك، أم داخلك الموجَع المتصدع الذي نجحت الكاتبة في فتح كوة في جداره والولوج إليه والحديث من داخلك وبصوتك أحياناً، أو ربما أن الكاتبة هي من فتحت فضاء نفسها في لحظة شجاعة تحت تأثير حزن ما ليرتاده الآخرون؟!.
هناك دائماً وجهان للحقائق، فليس ما نتصوره حتماً هو الحقيقة الوحيدة المطلقة، ولهذا فأنت دائماً في حاجة إلى «من يضمك داخل قميص قلبه، أو يحتضنك بين أضلاعه حتى تلفظ أقصى آهاتك، وتذرف آخر دموعك، ويداوي حروقك، ويضمد جراحك، ويمسح عبراتك، فيمسكها على هون أو يدسك في قلبه». (لم تعاني وحدك، ص11). كانت هذه إحدى الخلاصات النازفة التي استهلت بها الكاتبة تجربتها الإنسانية التي ضمنتها هذا المؤلَّف، بلغة تَكشف عن أنها في الوقت الذي تدعو فيه الآخرين للبحث عمن يحتويهم، لم تكن زاهدة في هذا الاحتياج.
وغير بعيد عن هذا المعنى تذهب الكاتبة إلى خلاصة أخرى تأتي صادمة هذه المرة، حين تَخلُص إلى أن الحياة لن تعطي الكثير، وأن الاستمتاع برفقة من يشاركوننا عناءها أولى بنا من انتظار عطائها الذي لن يأتي، وإذا أتى فقد يأتي متأخراً بعدما نكون قد فقدنا القدرة على الاستمتاع بأي شيء، لذا يهون كل شيء، إلا أولئك الذين «اتكأت عليهم حين أضناك التعب، أو أضاؤوا حياتك شموعاً». ثم ما تكاد تغمض عينيك مطمئناً إلى أن الكاتبة ستختم مقالها على هذا الحلم الآمن المطمئن بوجود الآخر إلى جانبك، حتى تفاجئك بقولها: «وتفاجأ حين تصل إلى مقرك ومأواك وملاذك أن كل من حولك قد انفض. أين ذهبوا؟! كيف تواروا؟! يبدو أننا في حاجة إلى ركض جديد؟». إذن لا خلاص للإنسان من الشقاء بالآخرين في هذا الوجود، ولاسيما أولئك الذين كان يؤمل فيهم المدد والعون، فإذ بهم يخلفون له «الشقاء والمرارة والخذلان». (محطات الحياة، ص13-16)
ويبقى عنوان (أرجوك.. لا تبهت) الأكثر تجسيداً لواقع الخذلان، اعتمدت فيه الكاتبة على ميكانزمات صورة كلية طويلة، تبدأها بقولها: «حين تسعد روحك برؤية شخص عزيز عليك، ويزدان المكان بحضوره، وتعطر أنفاسه الزوايا... تشقى لغيابه، تتألم لبعده ... بينما تظل واقفاً، شامخاً تشعر من حولك بالصمود، وأنت في أشد حالات ضعفك، لدرجة أنه لو لامستك أنامل لوقعت متهالكاً، قد امتص الزمن رحيقك، وجففت شمسه حيوية تسري في عروقك، ويبقى هذا الشخص هو دون سواه من يعيد لكل ما فقدته من رونق الحياة، هو دون سواه ....، هو دون سواه ...»، إلى أن تتساءل: «من أحال السطوع إلى حالة من الخفوت؟ من أحال ذلك الضجيج الممتع إلى أشد حالات السكون المفزع؟ أين ذلك البهاء وذاك التألق وتلك النضارة مِن هذا الشحوب؟» ثم يأتي الختام المؤلم الذي يكشف عن ذات قررت التنازل عن شموخها أخيراً في لحظة ضعف تحت وطأة فقد عنيف لم يترك لها قوة للصمود، برجاء الآخر «وطالما تمنيت أن تظل -أنت دون سواك- براقاً في حياتي لامعاً في سمائي، ساطعاً في وجداني.. فأرجوك حقاً لا تبهت». (أرجوك لا تبهت، ص17-20).
وأمام الهزيمة التي تسقط في قاعها أجسادنا وجوارحنا حين يتخلى عنا من أفنينا أعمارنا في الوفاء لهم، تؤكد الكاتبة أنه لا مفر لنا من أن نأوي إلى ركن الصبر، «حتى لا يصبح الهروب نهاية أربك، والنوم منتهى أملك اليومي»، (حديث الروح، ص21-25) في إشارة إلى اعتلال النوم الهروبي المعروف في علم النفس، الاعتلالات التي تغلفها الكاتبة هنا بغلاف رومانسي أما في الشطر الأخير من الكتاب، فستتحدث عنها بلغة الموسوعات الطبية، وتسوق أحدث الدراسات لعلاجها.
وعلى الرغم من هذا الإظلام التام لمشهد الحياة الذي تشير القرائن اللفظية والمعنوية الكثيرة في ثنايا هذا النص وغيره من النصوص إلى أن ستار الختام قد أسدل عليه تماماً، إلا أن هذه الذات المنكسرة المنكفئة على مأساتها، وجدت مع الزمن ما يستحق التشبث بالحياة من أجله، فعادت قوية، لم تقفز على حزنها، ولم تعده عاراً، بل واجهته وهزمته واحتقرته إلى حد أنها جعلت منه عادة صحية بل حكمة حين قالت في (ص 156) «ولو أدرك الرجال حكمة النساء لاتخذوا مكاناً مكشوفاً ليبكوا فيه ما طاب لهم البكاء». بل تذهب الكاتبة إلى ما هو أبعد من ذلك إمعاناً في التسفيه من عد البكاء عيباً أو ممارسة لا تليق برجل، أو تخص النساء وحدهن، حين تتحدث عن «دراسة طبية حديثة كشفت أن البكاء يعطي تأثيراً مهدئاً للنفس تماماً» حتى يخيل إليك أن الكاتبة تضحك وهي تسوق هذه الدراسة وغيرها نكالاً في البكاء، حتى تسقط عاره عن كل امرأة. بل ذهبت إلى ما هو أبعد وأكثر إيغالاً في أجواء الكوميديا التي بدا حرصها على إضفائها على المشهد كلياً حتى تطرد هذا الحزن المذل من حديثها ولغتها إلى الأبد بحديثها عن تلك الدراسات التي تفيد بأن «الدموع تعالج العقم»، (ابكوا كثيراً ولا تخجلوا، ص55-158) فأين هذا من ذاك أيتها السيدة الباسلة؟!!.
تبقى الإشارة إلى أن وجود الرجل خافت تماماً في هذا الكتاب، وأعني به هنا ذاك الرجل الركن الذي تأوي إليه المرأة، فلم يتجل إلا في إشارة إلى والد حرمت منه في زمن مبكر، ثم نابت عن جميع أدواره في حياتها أمها، ثم صخر أخو الخنساء الذي ما ساقته الكاتبة هنا إلا لتدلل به على أن الإخوة من هذا النوع كائن خرافي كالغول والعنقاء والخل الوفي، ولم تترك رقية الهويريني هذه المسألة لتخمين الآخرين، بل حرصت على النص عليها، وكأنها تتحسب لألا يتنبه أحد إلى ما ترمي إليه بقولها: «فأين صخر الأخ الآن؟ أين أفعاله المشرقة، ومواقفه البيضاء، حين تأتي له أخته شاكية من جراح، أو باكية من هزيمة، أو حتى متألمة من إحباط عابر؟»
فقط استأثر بوجود الرجل الحقيقي، الرجل الركن الذي أوت إليه رقية الهويريني في هذا المؤَلَّف الذي يحتاج إلى دراسة أكثر تعمقاً، لغوياً، ونفسياً، واجتماعياً، خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله-، وهي تحكي عن وقائع تكريمها في الديوان الملكي، في مقال لم يخلُ من «أكتاف قانونية» بلغة كرة القدم، لجميع الرجال الذين مارسوا ذكورة مفرطة على النساء حتى أنصفهن هذا الرجل، تقول رقية الهويريني تحت عنوان (امرأة في الديوان الملكي) (ص129): «في أعلى درجات التكريم والتقدير، دخلت امرأة سعودية الديوان الملكي مع مجموعة من المواطنات، وقد فتحت لهن البوابات الملكية، دون توجس أو تشكيك، أو كثير من الرقابة والتفتيش»، إذن في الأسطر الأولى انتهت من تصفية الحساب القديم بعبارات خاطفة لا تكاد تَبين، لكنها حوت مضامين مؤلفات ونكأت جراحاً عميقة في الذات الأنثوية الجمعية لنساء مجتمعها، ثم ما لبثت أن أضْفَت على الرجل الوحيد الذي توج بدور البطولة في هذا المؤلّف العميق ما لم تضفه على أي من الرجال بقولها: «وعلى الرغم من أنها أمام أكبر سلطة وأسنى مقام لم تطلب منه رفداً، وهو الأب الكريم، ولم تستنجد به لرفع ظلم وقع عليها، وهو القادر، ولم تشك له جور نظام وهو المتنفذ، بل دعت له بطول العمر، وأهدت إليه أعز أملاكها، وأثمن مجوهراتها (كتابها الجديد) لتقول له: أيها الرجل الصالح، ما كان لفكري أن يبزغ في عهدك لولا انقشاع ظلمة الجهل، وما كان لعلمي أن يظهر لولا زوال ديجور التعصب، وما كان لذهني أن يتوقد لولا تبدد غياهب الوصاية».